عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية

فارس خشّان

 تعريف: فارس خشّان كاتب ومحلل سياسي لبناني

 


كلب ...متقاعد

 الاثنين, 14 نوفمبر 2011 

في أثناء وجودي في لاهاي، لمتابعة جلسة جديدة للمحكمة الخاصة بلبنان، إنضمّ إلينا شاب لبناني يعيش في هولندا، التي انتقل إليها، مهاجرا، في حرب تموز 2006، على "جناح" شابة هولندية تعرّف عليها، وهو تائه في قبرص، يفتش عن أحلامه المبعثرة.

أخبرنا هذا الشاب الكثير عن حياته وعن تجربته وعن عواطفه وعن زوجته وعن المنطقة التي يعيش فيها.

لم تستوقفني رواياته، كثيرا، فهي على أهميتها أصبحت ، في المقاييس اللبنانية، كلاسيكية!

ولكن ، في نهاية السهرة، وكان يروي لنا تفاصيل عن حياته اليومية ، أخبرنا أن لديه ثلاثة كلاب يهتم بها. واحد منها، هو "كلب متقاعد"!

إستقطبت إهتمامي فكرة "الكلب المتقاعد" فروى أن هذا الكلب، كان يعمل في الشرطة الهولندية، وقد شاخ، وتقررت إحالته على التقاعد، ولكن الدولة الهولندية، ونظرا لما أسداه هذا الكلب من خدمات مميّزة لأمنها، رفضت أن تتركه من دون رعاية، تمكنه من أن يلاقي نهاية عمره، بكرامة!

وزاد صديقنا:" لقد تطوعت زوجتي أن تتبنّاه، وقررت الدولة الهولندية في المقابل أن تمنحه راتبا تقاعديا مقداره ثلاثمائة أورو، من أجل سداد حاجياته الطبية، بالجزء الذي لا يغطيه التأمين."

وكان بيننا شاب في مقتبل عمره المهني، فرفع صوته مستنكرا:" يتقاضى أعلى من راتبي!"

لم أتوقف عند هذه الصرخة، لأنها صرخة عامة، بل أخذتني قصة هذا "الكلب المتقاعد" في رحلة فكرية طويلة، وطرحت على نفسي مجموعة من الأسئلة، كلها تتمحور حول جدوى الوفاء.

من الأسئلة التي طرحتها على ذاتي:" الوفاء هو مبدأ "براغماتي"، فإذا كانت الدول وفية لإنسان جعلت إنسانا آخر يبذل في العطاء، ولكنها ، في هذه الحالة ، هي وفية لكلب، والكلاب وفية لأصحابها ولكنها كذلك بطبيعتها، وليست في وضعية من يقايض وفاء بوفاء. بمعنى آخر، فإن هذه الدولة يمكنها أن ترسل أي كلب الى مسلخ أو الى مزرعة مضبوطة، من دون أن يؤثر ذلك على استخدامها لكلاب أخرى ، وبالقدر التي تشاء.إذن ، هي وفية لمن؟

وراحت الأجوبة المبدئية تجول في خاطري، وهي أتت متعددة، وفق الآتي:

*الدول التي تلتزم بمعايير أخلاقية تهدف الى أن تجعل من نفسها مثالا أعلى لمواطنيها، لتساهم، بذلك، في تنشئة مواطنين يتمتعون بهذه الأخلاقيات.

* إن الشرطة تهتم بمدربي هذه الكلاب كما بالأشخاص الذين رافقوها في المهمات المناطة بها. ثمة حالة عاطفية تنشأ بين الكلب وبين الإنسان، وتاليا، فحفاظا على مشاعر المدربين والمرافقين، قررت تكريم هذه الكلاب بتوفير تقاعد كريم لها، على اعتبار أن الإساءة لتقاعد كلب نشط، يمكن أن يرتد سلبا على معنويات مدربيه ومرافقيه، فيتوقفوا لاحقا عن هذه المهمة.

*إن الدول التي تطمح الى تسجيل نفسها في مصاف الدول الراقية، يستحيل أن تميّز بين من يقدم لها الخدمات، سواء كان من خدم إستوعب ما يقوم به،واحتفظ به في ذاكرته، أو أنه قدمه تلقائيا، ونسي ما فعل.

وقصة هذا الكلب " المتقاعد" قادتني الى الإنسان في عدد من دول أوروبا. في هذه الدول يعتبر الموظف أن أهم مكتسباته هو في الخروج المبكر على التقاعد، ومتى حاولت أي دولة رفع سن التقاعد، تخرج التظاهرات وتتعطل الحياة الإجتماعية والإقتصادية والسياحية والقضائية والأمنية. الكل يصر على وجوب خروجه المبكر من الوظيفة الى التقاعد، لأنه في حياته المهنية يتعب ويناضل ويدفع الضرائب، على أن يجري تكريمه في حياته التقاعدية.

ومن أوروبا ، بكلابها وناسها المتقاعدين، وصلت الى لبنان.

أذكر حوارات طويلة مع قضاة وضباط وموظفين كانوا على مشارف الخروج الى التقاعد. جميع هؤلاء بدوا حزينين، وكأنهم يتهيّأون للموت. قال لي أحدهم:" حاليا، أنا أهيئ كفني، فالموت الوظيفي هو بداية الموت البيولوجي."

وأذكر مساع بذلها قضاة وضباط وموظفون من أجل إطالة عمر التقاعد، فقضاة لبنان ، مثلا، وبضغط منهم ، رفعوا سن التقاعد من 64 سنة الى 68 سنة، وجرت محاولات قبل سنوات، لرفع سن التقاعد الى 72 سنة.

وقد أبديت سابقا إهتماما كبيرا بهذه الظاهرة، فراقبت ماذا يحصل للخارج الى التقاعد، فتبيّن لي أن من يخرج في لبنان الى التقاعد يخرج من دائرة الإهتمام.

فجأة، يتوقف سيل الهدايا التي كانت يمطر عليه ، في الأعياد، مرفقة ببطاقات تحمل تعابير التفخيم.

فجأة، يتوقف الهاتف عن الرنين، بعدما يكون هذا الهاتف، الموسيقى الوحيدة التي يتمكن الموظف من سماعها.

فجأة ، تتوقف الدعوات الى سفرات خارجية، يستغلها المستفيد منها للتنويه عن زوجته الشاكية من كثرة تلهيه بالعمل.

فجأة، تخف الزيارات في المناسبات، بعدما كانت داره، في كل مناسبة، مقصدا للقاصي والداني.

قاض. ضابط. موظف. نائب. وزير . رئيس سابق. جميع هؤلاء يخشون من مصير من سبقهم الى التقاعد. تعتمل في نفوسهم مبررات النقمة على الناس وعلى الدولة. يتحوّلون الى مستغلين بدل أن يكونوا خداما أمينين للمصلحة العامة، ويسعون الى توفير تقاعد "كريم" بالقوة، في دولة لا توفر لهم مثل هذا التقاعد. يكثرون من الأزلام في بلداتهم، حتى لا تفرغ منازلهم لاحقا. ينامون على أبواب هذا الزعيم أو ذاك ، لعله يجد لهم مكانا، عندما يُخرجهم العمر من الوظيفة.

الكلب الهولندي المتقاعد، لو كان في لبنان ، بهذه الظروف، لما خدم دولته ولما حافظ على أمنها. لكان، لو يملك قدرة على التفكير، قد بكّر، هو الآخر، في النهش وفي العضّ!

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها