ملامح الدهاء السياسي في تشكيلة حكومة
ساركوزي الجديدة
لقد جمع رئيس جمهورية فرنسا الجديد نيكولا ساركوزي في شخصيته صفاتا
مقتبسة من تأريخ حياته الغني بالأحداث والخبر،وهكذا اتسمت أفعاله
وسياساته بخواص ومميزات تعكس في طياتها حرارة الشرق وحضارة الغرب ودهاء
الأصول!. فبحرارة شخصيته وحماوتها أبدل برودة السياسة الفرنسية المعهودة
عند الساسة الفرنسيين الكلاسيكيين وأعلن أشبه ما يكون بثورة بيضاء على
الترهل والبرود الطاغي على السياسة الفرنسية السائدة، فكسب ود وتأييد
الكثير من الفرنسيين بذلك. وبحضارة بيئته ومجتمعه تخطى سلبيات الشرق
وتعقيداته. وبدهاء جذوره وأصوله كسب معاركه ودحض أعداءه السياسيين
ومناهضيه ، فسدد لهم السهام القاسية التي أصابت الصميم!
لقد عرف ساركوزي من أين تؤكل الكتف وفهم كيف يعزف على الأوتار الحساسة في
آلة الإنتخابات الرئاسية ، حيث قدّم مشروعا إنتخابيا مبنيا على هواجس
الشارع الفرنسي ونبضه. وهكذا رفع شعارات مناهضة الهجرة غير الشرعية
ومعالجة أمور الأجانب واحتواء إستشراء الجريمة وتخفيف الضرائب وتقليل
مستوى البطالة، وهكذا كسب المعركة الإنتخابية الأساسية. وها هو اليوم
يعطي إشارة دهاء سياسي أخرى حينما أعلن تشكيل الوزارة التي ضمت خمسة عشر
وزيرا. فصدم بإعلانها أعداءه السياسيين ومنافسيه في إنتخابات الجمعية
الوطنية القادمة، فبدد مرة أخرى أحلامهم ومزق نسيجهم الهش أصلا!
لقد اخترق ساركوزي صفوف الحزب الإشتراكي وحزب الوسط وذلك من خلال إسناد
حقائب وزارية لشخصيات معروفة تنتمي لهذين الحزبين، خصوصا وزارة الخارجية
التي أسندها الى الدكتور برنارد كوشنير، وهو رجل سياسة فرنسي معروف وله
شعبية كبيرة بين الفرنسيين وينتمي الى الحزب الإشتراكي الفرنسي. وهذه
التسمية قد ولدت زوبعة كبرى في صفوف الحزب الإشتراكي الفرنسي الذي يعاني
من الهزل والتعب أصلا. أن إنتماء شخصيات هامة، أمثال كوشنير وهو مؤسس
منظمة أطباء بلا حدود العالمية، اليوم الى حكومة ساركوزي يعني صعود حازم
في سلم الرضى الشعبي عن هذه الحكومة وهذا يعني بالطبع تأييدا أكيدا لها
من خلال الإنتخابات العامة للجمعية العمومية الفرنسية التي ستحصل في
العاشر من شهر حزيران القادم والتي على أثرها سوف يتم إنتقاء الحكومة
الثابتة لفرنسا. والأمل الوحيد للحزب الإشتراكي هو أن يكسب معركة
الإنتخابات هذه من أجل أن يتبوء سدة الحكم من خلال تكوين حكومة إشتراكية
تتعايش مع رئيس جمهورية يميني. إلاّ أن هذا الحلم قد إبتعد كثيرا عن
التحقيق بسبب الشرخ العميق الذي حصل من خلال تعيين كوشنير وبعض الوزراء
الآخرين الذين ينتمون الى الحزبين الإشتراكي والوسط الفرنسيين في حكومة
ساركوزي الجديدة!
ان دهاء اللعبة السياسية الساركوزية لم تنته الى هذا الحد فقط ، فهو لم
يكتف بكسب بعض أصوات الإشتراكيين والوسط بل أراد أن يفضي أيضا بلمسات
هادئة ووديعة على رؤوس أبناء الجاليات الأجنبية. خصوصا الجاليات المتحدرة
من أصول شمال افريقيا كالجزائر والمغرب. وعلى هذا الأساس فقد سمّى السيدة
رشيدة داتي وزيرة للعدل. وهي قاضية فرنسية تتحدر من أصول مغربية-جزائرية،
حيث ان والدها من المغرب ووالدتها من الجزائر وهي الثانية في سلم العائلة
التي تتكون من إثنى عشر أخا وأختا!. وبهذا فقد ضرب ساركوزي عصفورين بحجر
واحد!. الهدف الأول الذي حققه بهذا الإجراء هو كسب ود الجاليتين المغربية
والجزائرية على وجه الخصوص والأجنبية بشكل عام. وامتص شيئا من غضبهم
الناشىء عن تصريحاته النارية التي أطلقها حينما كان وزيرا للداخلية ضد
بعض الأجانب، إبان أحداث الشغب التي أندلعت في الضواحي الباريسية عام
2005 م بين أبناء المهاجرين الأجانب والشرطة الفرنسية. والهدف الثاني
الذي حققه هو أن القوانين الجديدة التي ستنظم عملية الهجرة وعملية إندماج
المهاجرين سوف تكون تحت رعاية وزارة العدل ورقابتها وهذه الوزارة ستكون
بطبيعة الحال تحت قيادة هذه السيدة . فهل سيحتج ابناء الجاليات المهاجرة
ويتمردوا ضد وزيرتهم!؟.
يلاحظ المراقب السياسي بأن الحكومة الجديدة قد تميزت فوق كل هذا وذاك
بصفات أخرى إستثنائية تثير الإنتباه. من بين هذه الصفات هو أن أعضاء
الوزارة الجديدة ينتمون الى مناطق جغرافية مختلفة ومنتشرة تغطي مناطق
ومدن فرنسا ولا تنحصر في مناطق معينة دون أخرى. كما أن النساء لهن حصة
كبيرة في التشكيلة الوزارية الجديدة وعددهن في هذه الوزارة يقارب عدد
الرجال فيها وهي ظاهرة إستثنائية في تأريخ الحكومات الفرنسية. كما أنه
عين مارتان هيرش، وهو رئيس منظمة (أمّاؤس) الخيرية والتي تجاهد ضد الفقر
والظلم الإجتماعي، رئيسا لمؤسسة الكفاح ضد الفقر الحكومية . وهو مركز
مرموق في سلم الوظائف الفرنسية. كل هذا يشير الى أن السيد ساركوزي يطمح
لعدالة إجتماعية متميزة وإنصاف سياسي واضح بين الفرنسيين!
ان وجود وجوه متميزة داخل الوزارة الجديدة، لا تنبعث من طبقة ساركوزي
وحزبه، مثل السيد كوشنير والسيدة داتي لا يعني بالضرورة صناعة نسيج
متباين في تركيبه وغير متجانس في شكله والذي قد يؤدي الى تمزقه وتهشمه
مع حركة الزمن. بل ربما الأمر على العكس من ذلك تماما! حيث أن هذا النسيج
المتباين بالشكل ربما يعطي رونقا جميلا ومناعة وقوة. حيث أن أفكار السيد
كوشنير بخصوص السياسية الخارجية متطابقة الى حد بعيد مع أفكار ساركوزي
وبرامجه، خصوصا تلك المتعلقة بسياسة فرنسا المستقبلية مع الولايات
المتحدة والشأن العراقي ومشكلة الشرق الأوسط ومشاريع فرنسا المستقبلية
ضمن الإتحاد الأوربي. أما وزيرة العدل فهي قاضية تحترم القانون والدستور
والنظام وسوف لن تخرج عن طورها كخادمة للقانون الفرنسي مهما غلى الثمن،
لذلك سوف تتعامل مع مسألة الهجرة طبقا لما يمليه القانون الفرنسي عليها
دون تحيز أو تفضيل. وهكذا فقد وضع ساركوزي الشخص المناسب في المكان
المناسب وأحكم أصول اللعبة. فكما كسب معركة الإنتخابات الأولى(إنتخابات
الرئاسة)التي جرت في السادس من شهر أيار الحالي فإن المحلل السياسي يتوقع
بأنه سيكسب أيضا معركة الإنتخابات الثانية(إنتخابات الجمعية الوطنية) في
حزيران القادم، حيث ان إمارات هذا الكسب أو النصر تلوح برّاقة في أفق
إنتخابات فرنسا القادمة!
|