الكلدان الآشوريون السريان شعب واحد  يسمى بالشعب الآرامي

 

اقرأ المزيد...

 

 

بقلم الكولونيل شربل بركات

   تورونتو - كندا 


التمدد السوري وعملية الليطان

 

 

 

بعد أن تسنى لسوريا السيطرة على كل بيروت تحت غطاء عربي أطلق يدها في مؤتمر القمة،

 وقد نشرت قواتها العسكرية التي شرعتها تسمية الردع في كل الأحياء، قامت بعزل القرى الحدودية التي رأت فيها الثغرة التي فتحت باب التعاون مع إسرائيل، فحاصرتها بواسطة جماعات التخريب والحقد، وأوهمت اللبنانيين بأنها بهذا تلهي التطرف الفلسطيني والمسلم بدون أن تسيء إلى البلد الذي سيستعيد عافيته شيئا فشيئا، وما هذه الحرب في الجنوب إلا فتيلا لتنفيس الاحتقان. ولكنها بالفعل كانت تحاول أن تقضي على أية إمكانية للتعاون مع الدولة العبرية وإفهام أبناء القرى الحدودية بأنه لا يمكنهم أبدا الحلم بالانفتاح نحو الجار الجنوبي، وانهم ليسوا أصحاب قرار السلم أو الحرب، وأنهم سيكونون دوما من تقع عليهم أعباء ونتائج الصراعات التي ليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل.

ثم بدأت بالضغط على المنطقة الشرقية بتوقيف المقاتلين على الحواجز وسوقهم إلى سجون دمشق. وصارت المراجعات لإطلاق سراح موقوفين من المليشيات المسيحية الشغل الشاغل للزعماء المسيحيين، وصار التحرك بين أحياء المنطقة الشرقية عملية دقيقة جدا وخطرة، وتبين أن القوات السورية تحمل قوائم بالمقاتلين وهي تنفذ خطة مدروسة وموضوعة من أعلى المستويات في القيادة السورية وليست موضوع خطاء محلي أو أي سوء تفاهم محصور. من هنا زادت قناعة المسيحيين بأن دخول السوريين إلى المنطقة تحت أي اسم كان خطأ جسيما لأن لهؤلاء مشاريعهم وخططهم في لبنان وهم لا يريدون أبدا تغييرها.

وإذ يقوم الفلسطينيون وبدعم واضح من السوريين بهجوم على الخيام يجبر عسكريي تجمع القليعة على الانسحاب بعد إصابة قائد المجموعة التي تدافع عن البلدة، يتمسك المدافعون عن مرجعيون بمرتفع الشريقة ويستميتون في الدفاع عنه وتفشل كل محاولات المهاجمين ما يجعل من مرجعيون قلعة عنيدة يقوم سكانها بالاشتراك مع العسكريين بتحصين دفاعاتها والصمود في كل المواقع المحيطة بها. أما في القطاع الغربي فتقوم مجموعة من عين إبل باحتلال مرتفع شلعبون الذي يسطر على المحور الرئيسي بنت جبيل- تبنين ما يربك الفلسطينيين في البدء ويجعلهم، وبحسب دراسات صدرت فيما بعد عن هذا الموضوع في أوساط اليسار اللبناني (مجلة فكر القومية)، يستدعون كل مقاتلي القوات المشتركة في المناطق اللبنانية للقيام بهجوم مضاد لاسترداد هذا الموقع. وإذ يخسر المهاجمون عشرات المقاتلين، يتوعد عرفات في أثناء زيارته لبنت جبيل بأنه سيدخل عين إبل ولو كلفه ذلك آلاف القتلى.

هذه الأحداث التي جرت في بداية سنة 1977 جعلت القيادة المسيحية في بيروت تنظر إلى الجنوب مجددا على أنه عنصر مهم في موازين القوى وتفهم اللعبة السورية التي تضغط بكل ثقلها لإنهاء دوره. من هنا يعود الاهتمام بالجنوب وبمساعدته على الصمود والتنظيم وبربطه بالمنطقة المسيحية بأية وسيلة متوفرة. وهكذا يعين الرائد سامي الشدياق قائدا لتجمع رميش العسكري ويصل إلى عين إبل برفقة ضابط من سلاح الطيران اللبناني هو الملازم أول جورج زعتر وهو أحد طياري الميراج ( المقاتلة الفرنسية التي كان يملك لبنان سربا منها). ويصل فيما بعد إلى الجنوب عددا من المقاتلين من المناطق المسيحية بينهم من كان مطلوبا من القوات السورية ومن أبرز هؤلاء إيلي حبيقة الذي عرف في المنطقة باسم الشيف ادوار والذي وصل مع مجموعة من المقاتلين الكتائبيين إلى القطاع الغربي بنما وصلت مجموعة من مقاتلي الأحرار إلى القطاع الشرقي.

ويمضي صيف 1977 حارا في الجنوب وتكثر فيه التعديات على المنطقة ولكن بنفس الوقت التدريبات والتجهز وإقامة التحصينات في القرى الحدودية لتصبح قلاعا يصعب دخولها. ويضيق الخناق أكثر فأكثر على السكان خاصة من جهة التحرك والتواصل مع الشمال وكأن الخوف من التهجير الذي كان السبب في تمسك أبناء هذه القرى بالأرض والتراب ومنع الفلسطينيين وأعوانهم من دخولها قد نتج عنه تهجيرهم عن الوطن أو بالأحرى هجرة الوطن القسرية عنهم. ولكن وجود رموز من لبنان بينهم جعلتهم يتأملون بأن الوضع ليس نهائيا وبأن الأمور لا بد أن تتحسن وأن الحاجز الذي زرعه الفلسطينيون والسوريون وأعوانهم من الغرباء لا بد سيزاح ويعود الوطن إلى لقاء أبنائه البررة الذين لم يقبلوا أن يرتفع على ترابه غير علمه المفدى ولم ينشدوا سوى نشيده الوطني ولم يحرك مشاعرهم إلا أرزه الخالد وتاريخ ملاحم البطولة فيه. وما هذه الأبيات التي قالها شاعرهم في هذه الفترة إلا الدليل الأكيد على ذلك:

سائل الأرز كي يعز البقاء   كم سقته محاجر ودماء

بحر دمع وأبحر من دماء    ألف عام ولم يشح العطاء

في شمال وفي بقاع عزيز   وجنوب أذله الأشقياء

لم نروع ولم يهز الحنايا     غير لبنان صرخة أو نداء

علمتنا قبل الثرى أمهات     كيف نفدي متى يعز الفداء

فنشأنا لبنان فينا أباء         وكبرنا والعزم منا مضاء

أما السياسة السورية في المناطق المسيحية فقد قامت على المبدأ العثماني المعروف "فرق تسد" وصارت عملية  زرع بذور الفتنة بين القوى وتسريب المعلومات الشغل الشاغل للأجهزة. وكانت أبرز الفئات المسيحية التي قاتلت بشكل علني ومنظم في بيروت والجبل هي الكتائب والأحرار وحراس الأرز والتنظيم، بينما بقيت قوات المردة التابعة للرئيس فرنجية في الشمال وخاصة منطقة زغرتا وجوارها، ولم تنظم الكتلة الوطنية ميليشيا مسلحة وبقي رئيسها السيد ريمون إده، صاحب فكرة البوليس الدولي، متعلقا بنظريته التي تقول بأن مشاكل لبنان لا تنهيها الجامعة العربية ولن يمكن التوصل إلى التفاهم بين اللبنانيين في ظل السلاح والتدخلات الغريبة، بل يكمن الأمل في التدويل وتدخل الأمم المتحدة كقوة عالمية تكفل الأمن والاستقرار على أن يصبح لبنان بلدا محايدا يبعد عن الصراع القائم في المنطقة وتحميه هذه القوات الدولية التي تمنع التعدي على حدوده. هذا الطرح وإصرار صاحبه لم يعجب السوريين طبعا، ولذا كان لا بد من إبعاد السيد إده وطروحاته، فأخذت الأجهزة تسرب المعلومات عن نية الكتائب التخلص من إده صاحب اللسان السليط، فينتقل الأخير للسكن في المنطقة الغربية حيث تجري هناك محاولة لاغتياله ما يجعله يغادر إلى باريس. وتتولى السعودية بواسطة المليونير اللبناني السعودي رفيق الحريري مهمة تشجيعه على البقاء خارج لبنان وخارج اللعبة السياسية. وينزل في أحد فنادق باريس حيث يتعهد السيد الحريري بالتكاليف طالما بقي إده  في الخارج. وهكذا يتخلص السوريون مرة أخرى من خصم عنيد ولكن غير مقاتل. ثم ينتقل الخلاف لداخل الجبهة اللبنانية حيث يوهم الرئيس فرنجية وبواسطة تقارير "المحبين" بأن الكتائب سوف تسيطر على الساحة المسيحية عاجلا أم آجلا فينسحب من الجبهة ليحمي مواقعه في الشمال. وينسحب سعيد عقل أيضا من الجبة اللبنانية ولكن بعد خلاف داخلي في حزب حراس الأرز الذي كان يعتبر المرشد والمفكر الأساسي له. وهكذا تنحصر الجبهة اللبنانية في ثلاثة لاعبين أساسيين يشكلون النسبة الكبرى للقوى المتواجدة على الساحة المسيحية وهم الكتائب والأحرار والكنيسة المتمثلة بالرهبانية المارونية. أما الفكر المسيحي فقد بقي متمثلا بالدكتور شارل مالك والدكتور فؤاد أفرام البستاني والسيد ادوار حنين.

وتكون سنة 1977 التي حوصرت فيها القرى الحدودية بشكل خانق إحدى أصعب السنوات التي مرت على الجنوبيين بينما تشهد بيروت شيئا من الاستقرار. وبالرغم من وجود رئيس جمهورية وحكومة إلا أن هذه قد غلب عليها الطابع التكنوقراطي وتركت الساحة السياسية للسوريين ما جعل دور الجبهة اللبنانية في التمثيل  الفعلي للمسيحيين يكبر أكثر فأكثر.

وبينما تضغط سوريا في بيروت والجنوب على المليشيات المسيحية ولو بشكل مختلف تشهد نهاية 1977 مفاجأة كبرى على صعيد منطقة الشرق الأوسط إذ يتوجه الرئيس المصري أنور السادات "بطل العبور" إلى إسرائيل ليصافح قادتها بكل شجاعة ويعرض عليهم السلام. هذا القرار التاريخي لقائد مصر أكبر قوة عربية جعل الأنظار تتوجه إلى القدس لتأخذ محادثات السلام المصرية الإسرائيلية كل الوهج العالمي وليس المحلي فقط. ويتأمل أبناء الجنوب بالسلام الآتي يفتح الحدود بينهم وبين أكبر دول العرب فكيف سيتهمون بعد اليوم بالخيانة عندما تصالح أكبر دول العرب إسرائيل وما معنى العداوة بعد اليوم إذا كان زعيم مصر التي حاربت عن كل العرب يفاوض الإسرائيليين على السلام الشامل.

ولكن السوريين، بالرغم من أن الرئيس السادات كان قد زار الرئيس الأسد قبل التوجه إلى إسرائيل وأعلمه بنيته،  عندما درسوا الموضوع بدقة وجدوا في معارضته كسبا أكبر لهم، لأنه إذا ما عزلت مصر سوف تصبح سوريا هي واجهة العرب وسيدة الموقف ولن يستطيع أحد أن يخرجها من لبنان، لا بل سوف تصبح هي وحدها القابض على خيوط اللعبة في الشرق الأوسط. بينما لو تسنى لمصر أن تقود السلم فإنها ستصبح بلا شك سيدة العرب أجمعين ولن تكسب سوريا لا بل قد تخسر لأنها تبتز أغنياء العرب بسيطرتها على منظمات التخريب وجماعات الإرهاب وإذا ما تغير الوضع وانتهى التخريب فإن بضاعة الحكم السوري سوف تكسد، من هنا فإن محاربة إسرائيل وقيادة جبهة "الصمود والتصدي" للمشاريع "الإمبريالية والصهيونية" أهم بكثير من تأييد مشروع السادات وأوفر ربحا. وهكذا صمم السوريون على إقامة جبهة عربية لمواجهة "الحلول الاستسلامية". 

هذا القرار السوري الذي اتخذ ردا على مشروع السلام جعل السياسة السورية في الجنوب تتغير فبدل من أن يتقيد الفلسطينيون بعدم محاربة إسرائيل والاكتفاء بمحاربة الجنوبيين، تطورت الأمور باتجاه المجابهة مع "العدو". من هنا بدأت جماعة عرفات وغيره بنصب مدافع طويلة المدى تستطيع أن تطال القرى الإسرائيلية في الشمال وصار أي مشكل على الحدود يتطور إلى قصف يطال القرى الإسرائيلية هناك ما جعل الوضع يتأزم والأمور تسير نحو الصدام.

في بداية 1978 أرسلت سوريا بتعزيزات من الصاعقة السورية للتمركز بمواجهة القرى الحدودية وزادت التدخل بتفاصيل العمليات وإدارتها. وفي آذار من السنة نفسها تقوم مجموعة من عسكريي القرى الحدودية في القطاع الأوسط بالتوجه إلى مارون الرأس لمنع  الفلسطينيين من دخولها، ولكن قوات الصاعقة تحتل البلدة بهجوم سريع  ينتج عنه انسحاب الجنوبيين وخسارة ثمانية شهداء. وبعد أسبوع تقريبا تقوم فرقة من الفلسطينيين بعملية داخل إسرائيل وبالقرب من مدينة تل أفيف ينتج عنها عدد من القتلى المدنيين فترد إسرائيل بعملية سريعة داخل الأراضي اللبنانية تدعوها "عملية الليطاني" وتهدف إلى إبعاد الفلسطينيين عن الحدود حتى ما بعد نهر الليطاني. تستمر هذه العملية أسبوعا تصل فيه القوات الإسرائيلية حتى مشارف مدينة صور غربا ونهر الليطاني شمالا وحتى بلدة الغندورية في الشرق. وهكذا يزاح عن كاهل سكان المنطقة الغربية العبء الفلسطيني الذي كان أرهقهم مدة سنتين متواصلتين خاصة من مواقعه في رشاف وطير حرفا وشلعبون. بينما لم يتغير شيء تقريبا في المنطقة الشرقية فقد بقي الفلسطينيون في قلعة الشقيف وبقي السوريون في العيشية وجبل الريحان. 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها