لبنان بين خطاب نصر الله وكلمة جعجع
25- أيلول- 2006
حدثان مهمان توجا تحرك اللبنانيين هذا الأسبوع كان الأول احتفال
حزب الله "بالنصر الإلهي" بينما كان الثاني قداس شهداء المقاومة
اللبنانية في حريصا.
في الأول ظهر نصر الله لأول مرة منذ إعلانه الحرب على إسرائيل
منفردا بقراره الذي تحدى فيه الدولة اليهودية، وهاجم جيش الدفاع
الإسرائيلي في عقر داره، ونفّذ عملية "نوعية" خطف خلالها جنديين
إسرائيليين وقتل ثمانية بينما تولت وحدات صواريخه ومدفعيته منع
وحدات المساندة الإسرائيلية من التحرك لنجدة الذين وقعوا في الفخ.
وأعلن يومها سيد المقاومة أن هذا "الهجوم النوعي"، الذي أطلق عليه
تسمية "الوعد الصادق"، نفذ بعد التخطيط الدقيق والمتأني وفي الوقت
الملائم، وهو يعتبره نصرا لحزب الله على "العدو المتغطرس".
يومها، وما أن انتهى السيد من إعلانه "النصر المبين" حتى نزلت على
لبنان نيران جهنم وحمم براكينها، وبدأت معركة استمرت 33 يوما
بلياليها دمرت خلالها قرى ودساكر، أحياء ومجمعات، جسورا وطرقات،
محطات كهربائية ومصانع... وقتل ما يزيد على الألفي مواطن دون حساب
المقاتلين الذين لم يحصوا بعد. وشرّد من شرّد وتهجّر من تهجّر
وغادر لبنان أكثر من مئة ألف من سكانه غير الزوار والمصطافين
وأصحاب رؤوس الأموال. وكان أن خسارة لبنان تعادل ما يقرب الخمسة
عشر مليار دولار، ليزيد الدين العام وتتوقف الدورة الاقتصادية،
ويعاد الكل إلى أجواء الحرب التي كانوا يحاولون نسيانها. ولماذا
كان كل ذلك؟
يقول السيد أن حزب الله أراد أن يحرر الأسرى من السجون
الإسرائيلية. ولكن الكل يعلم أن شارون رئيس وزراء "العدو" كان قد
أهدى حزب الله قبل سنتين فقط، في صفقة تبادل أسرى، حوالي سبع مائة
سجين بين لبناني وغير لبناني من جنسيات عربية مختلفة، وذلك بمقابل
ثلاث جثث ومعتقل واحد، ودون أن يعرف شيئا عن رون أراد الطيار
الإسرائيلي الذي أسر على يد حزب الله. ولم يبق عند إسرائيل بعد هذا
التبادل سوى سمير القنطار الذي كان سجن بعد عملية في الداخل قام
خلالها بخطف مدنيين وقتلهم بشكل متعمد، كما تقول الصحف
الإسرائيلية، وهو ينفذ حكما بالسجن، وقد جرت تلك العملية قبل أن
يخرج حزب الله إلى النور. فهل استرجاع القنطار يوازي كل الخسائر
التي تسببتها العملية؟
يقول السيد في المقابلة التي كان أجراها مع تلفزيون الجزيرة بأنه
لم يكن يتوقع هذا الحجم من الرد، ويقدر الخبراء بأنه أطلق حوالي
4000 صاروخ على إسرائيل لتستمر بقصفها لبنان، ولكنه لم يتوقف إلا
بعد التوصل إلى قرار دولي ألزمهما بالتوقف معا.
السيد نصر الله يعتبر نفسه منتصرا في هذه الحرب، وكثيرون يقولون
ذلك، وبرأيه تكفيه شهادة الإسرائيليين وانتقادهم لحكومتهم لأنها
لم تقدر أن تنهي حزب الله بالرغم من كل الدمار الذي حصل. قد يكون
هذا صحيح بالمنظار الإسرائيلي لأن الشعب الإسرائيلي يعتبر أنه يجب
على إسرائيل عندما تقوم بشن حرب ما أن تنتصر وذلك بالقضاء على
قدرات العدو ومنع تهديده لها مجددا. فهل تم ذلك؟
حزب الله ينكر أن يكون قد تم لإسرائيل ما أرادت، بالرغم من أن قوات
الجيش والأمم المتحدة تنتشر في الجنوب لمنعه من القيام بأي نشاط
ضد حدودها. وهي طلبت منع إعادة تسليحه بالصواريخ والعتاد العسكري
وتقوم قوات الجيش بمراقبة الحدود مع سوريا بينما تقوم قوات الأمم
المتحدة بمراقبة البحر لمنع التهريب. ولكن السيد حسن يقول بأن عدد
الصواريخ التي لديه الآن يفوق ما كان يملك، وأن رئيس وزراء إسرائيل
أعلن أنه سيبقيه في جحره، كما صدام حسين، ولكنه لم يقدر وها هو قد
خرج أمام الجماهير ولم يستطع أحد أن يؤذيه.
إذا كل ما يفاخر به حزب الله هو أن إسرائيل لم تقتل زعيمه بالرغم
من إعلانها عن ذلك، وهو لم يتوقف عن رشقها بالصواريخ بالرغم من كل
الدمار والقتل والخراب الذي حصل.
وهنا تجدر الإشارة إلى من "أوقف القصف بالبكاء" (كما قال نصرالله
في خطابه) لنتذكر واقعة تاريخية وصفت بها حكمة النبي سليمان، عليه
السلام، عندما أتته امرأتان تدّعي كل منهما بأنها أم الصبي، ولا
حاجة للتذكير بما جرى، ولكننا نسأل في هذه الحالة التي نعاني منها
اليوم، وبالرغم من تجميع الناس وتهييجهم، من هي أم الصبي؟ ومن
يخاف على المواطنين وأمنهم؟ ومن صاحب الحق برعاية البلاد؟ هل هو
من أغلقت بوجهه كل الأبواب ومنعت الحلول فوقع بين نار "العدو"
وغطرسة الغير مسؤولين من أهله فلم يجد إلا الأسى على حال الناس
فأذرف الدمع؟ أم من سمح بقتل الناس وتدمير بيوتهم واستمر لا
يتنازل عن غيّه إلا إذا قتل هو أو أسكت بالقوة؟ فأين عدالة السماء؟
وأين التشبه بأولياء الله؟ وأين الإحساس بمصائب الأهل؟ وهل يشترى
كل شيء "بالمال الحلال"؟ وهل تنفذ ثقافة الحقد على أهل البيت؟
أكثر ما يؤسف له في هذه الهرطقة الجديدة أن يجلس كبار من عندنا في
صفوف المصفقين لغطرسة الجهل، فهل ضاعت الأهداف في حماية الوطن،
وأمن المواطن، ومستقبل البلاد، وسيادة الدولة، وحقوق الناس، في
منصب أو كرسي؟ وهل ذكرّ أحد هؤلاء "سيد" المقاومين بالتفاهم
وأوراقه؟ أم أن السير في الركب أنسى الراكب، للأسف، من يمسك
اللجام وإلى أين تسر القافلة؟
أما الحدث الثاني فكان قداس شهداء القوات اللبنانية في حريصا حيث
ألقى السيد جعجع كلمة حاول الرد فيها على خطاب السيد حسن نصر
الله، وقد أحسن في بعض ما قال. ففي موضوع السلاح وقيام الدولة كان
واضحا بأنه لا قيامة للدولة مع وجود السلاح في أيدي فئة من
المواطنين، وفي موضوع الرهان على إبقاء السلاح بالقوة قال أنه
رهان خاطئ، وفي موضوع المراهنة على احتضان الشعب للمقاومة قال
أننا نراهن على توق الناس للحرية والسلام والتطور وعلى منطق
التاريخ، وقال أيضا بأن أي سلاح لن يرغمنا على التسليم بالأمر
الواقع وعدم فرض القتال بالإكراه. ولكن إشاراته لبعض الأمور
الأساسية في المشاركة السياسية وحقوق المجتمع المسيحي الذي من
المفترض أن يمثله، كانت خجولة، إلا أنها تدل على محاولة للتخلص من
وهم الضعف والاستسلام اللذين وضع بأجوائهما أحرار لبنان ومقاوميه
الحقيقيين. وهنا تحدث عن التوازن في الحكم ولو أنه غلّفه بالحاجة
لتنفيذ اتفاق الطائف، وتكلم عن المساجين في سوريا ولو أنه لجأ إلى
تبرير حديثه عنهم بذكر المساجين في إسرائيل، ولكنه حيا بطرس خوند
لأول مرة وهي إشارة مهمة يمكن أن تعطي دفعا في موضوع الموقوفين
اللبنانيين في تلك السجون. وهو تكلم عن المهجرين من الجبل وضرورة
عودتهم، ولو أنه تأخر بطلب ذلك من حليفه جنبلاط.
في خطاب جعجع الأول بيوم شهداء القوات اللبنانية، وبعد الحرب
الأخيرة المدمرة على لبنان التي تسبب بها حزب الله وعنجهيته،
وموقف تيار الجنرال عون المؤيد لهذا الحزب والذي لم يهضمه المجتمع
المسيحي الذي يدعي عون تمثيله، كونه أعطاه الثقة يوم وقف بوجه
الحلف الرباعي في الانتخابات النيابية الماضية بينما وقف ممثل
القوات اللبنانية يومها، المغفور له ادمون نعيم، في عين الرمانة،
رمز المقاومة المسيحية، ليقول بأنه عنصر في مقاومة نصر الله. هذا
الموقف اليوم هل يعيد تعويم جعجع وإعطائه ثقة الشارع المسيحي الذي
يفتش عن رمز يعيد له الحلم بمستقبل له فيه الوزن الذي يستحقه في
إدارة البلاد، أم أنه فقد إلى غير رجعة تلك الثقة ولن يقع
المسيحيون مرة أخرى في أخطاء الماضي أو يسلموا أمرهم إلى زعامات
قادتهم نحو الانقسامات والوهن وفقدان الدور في سياسة البلاد، فلا
هي نجحت في قيامة لبنان ولا هي استطاعت أن تنقذ المسيحيين أو تحمي
مناطقهم، بالرغم من أنهم أعطوها الثقة ودفعوا لها من أموالهم
وفلذات أكبادهم ومن أحلام أبنائهم الكثير.
خطاب نصر الله وكلمة جعجع حدثان مهمان في لبنان اليوم بالرغم من أن
الأول أخذ وهجا عربيا ودوليا بدون أساس، ولا يزال الثاني يحاول
كسب ثقة جماعته وتنظيم البيت الداخلي وتركيز تحالفاته المحلية،
ولكن مستقبل لبنان لن يكون ببقاء حزب الله وسلاحه وتطاوله على
الكل وتفرده بالمصير، ولن يرسم بدون المسيحيين وهم لن يكونوا
"شرّابة خرج" لأحد، فطالما لم يخرج عون من وهم ورقة التفاهم التي
سجنه فيها توقه للرئاسة، وطالما لم يخرج جعجع من وهم السجن ويثبت
بأنه حليف قوي بكل معنى الكلمة وقادر على فرض رأيه في الأمور
المصيرية، فإن المسيحيين سيفتشون عن زعامة أخرى أجد وأقدر، ولكنهم
لن يسلموا لا لسطوة السلاح المفروض عليهم بالقوة ولا بالطبع للمال
المغري الذي يعتقد بأنه يقدر أن يشتري كل شيء.