الجديد في خطاب الأسد
تورونتو في 11- تشرين ثاني-
الرئيس الأسد الذي كان ينتظر العالم منه أن يتعاون على كشف المجرمين
الحقيقيين الذين خططوا ونفذوا جريمة اغتيال الرئيس الحريري، والذي قيل بأنه
كان كلف قائد المخابرات الجوية القيام بتحقيق خاص أظهر له كل شيء، لم يستطع
على ما يبدو أن يقوم بما قام به السيد الوالد من قبله عندما طرد شقيقه رفعت
قائد "فصائل الدفاع" التي اعتبرت في حينه أكثر الفرق العسكرية السورية قوة
وانضباطا وولاء لشخص قائدها رفعت المذكور.
الرئيس السوري الطبيب الذي لم يكن قبلا عسكريا ولا أغراه الزي ولا الأوسمة
ولمعانها، لم يستطع، على ما يبدو، حسم أمره بتقديم المسؤولين عن الجريمة
للمحاكمة وتخليص البلد من مأزق سيقع فيه بدون شك. وهو كان حاول التحايل
بطريقة دبلوماسية عندما شكل لجنة كانت ستخرج بتحقيق سوري يجرّم غزالة
والمرحوم، كي لا نقول المغدور، كنعان وشركائهم اللبنانيين وتلفلف الموضوع عند
هذا الحد، على أن يبقى النظام ورأسه ليساهم في إعادة الاستقرار والتعاون بين
دول المنطقة ومع المجتمع الدولي. لكن، على ما يبدو، لم يقبل أحد أن تلخص
مسؤولية الجريمة بغزالي وحده، وطالب الجميع بالحقيقة كاملة، وطرح اسم صهر
الرئيس المسؤول عن الاستخبارات العسكرية آصف شوكت واسم شقيق الرئيس قائد
الحرس الجمهوري ماهر الأسد، ما كان سيسمح، لو تم تسليمهما، ببقاء الرئيس لعدم
علمه بالأمر، وهو الذي كان صرّح لوسائل الإعلام بأنه مستعد لتسليم من يثبت
ضلوعه للعدالة على أنه خائن لسوريا. فماذا جرى لكي يتحمّس الرئيس الأسد وينزل
إلى الميدان فيتحدى الأمم المتحدة، ويبشّر السوريين بالوبال، ويقرع طبول
الحرب، معلنا حالة الاستنفار القصوى بدون سابق إنذار؟
الرئيس الأسد الذي عجّل بالتوجه إلى الطلاب السوريين على أنهم نخبة الأمة
وطليعة التحركات الشعبية، وهم قد يحبون تقليد زملائهم اللبنانيين بالنزول إلى
الشوارع، ورفع الأعلام السورية، وتحريك العواطف، علّ الجبهة الداخلية تستطيع
تحمّل الآتي من عقوبات، وتمنع التأفؤف والتململ الذي ستحدثه، في وقت لم يعد
حكم رجال المخابرات بقادر على السيطرة على الوضع بالسهولة التي تعوّد، فقد
تفتّحت العيون وتعاظم الخطر ولم تعد تنطوي على أحد ألاعيب البعثيين
ومخططاتهم، وقد رأى السوريون كيف تسقط أنظمة القمع المشابهة في دول العالم
وفي الجوار.
الرئيس الأسد قد لا يكون قادر على مجابهة ماهر أو آصف، أو أنه تصوّر بأن لجنة
التحقيق لا بد ستصل إلى الحقيقة، عاجلا أم آجلا، وسيتكلم كثيرون، ومن بينهم
المطلوبون من اللجنة، ولا بد أن يفضح تورطه.
الرئيس الأسد ومستشاروه تأخروا كثيرا لكي يفهموا بأن الأمور تغيّرت في عالم
اليوم، وهم ليسوا بمستوى الأحداث، ولا هم يلعبون لعبة إسرائيل المحاصرة، أو
لبنان المستفرد، أو جماعة عرفات، أو بعض الأنظمة في دول عربية طالما ابتزوها
بإرهابهم المعهود، ولكنهم يواجهون العالم وعلى رأسه الولايات المتحدة التي
جرحها تعنتهم وتدخلهم في شؤون العراق ولبنان وفلسطين، وتأييدهم للإرهاب، وعدم
الاكتراث لكل النصائح، وكان الأجدر بهم التعاون منذ اللحظة الأولى.
يقول قائل بأن آخر أسلحة الأسد كانت تحريك القلاقل بواسطة عملائه وشركائه
الإيرانيين والأصوليين الإسلاميين في فرنسا، ومن ثم نقلها إلى ألمانيا عقر
دار ميليس، لتكون رادعا للتدخل بشؤونه، ومن ثم استرضائه للتوصل لتخفيف هذه
الهجمة الشرسة، وهو ما يفسر استمرار هذه الأحداث بدون مبرر وانتقالها إلى
أكثر من مكان لمدة غير قليلة، وكأن يدا خفية تحركها. ويستطرد هؤلاء بالقول
بأن مظاهرات الأرجنتين أيضا، والتي كانت ضربة للرئيس بوش، وقد ظهر فيها بكل
وضوح مشاركة جماعة سوريا وإيران من اللبنانيين القوميين، وجماعة حزب الله،
والمنظومة الإرهابية الفلسطينية وغيرهم، وقد بدت الأعلام والشعارات بالصور في
أكثر من صحيفة، كانت أيضا آخر وسائل الضغط قبل التفجير. ولكن الموقف الفرنسي
الصارم واكتشاف بعض الخيوط التي تدينهم جعلت الأمور تنقلب ضدهم.
الرئيس الأسد في خطابه أمس قرع طبول الحرب، نعم، وأعلنها مجابهة مع المجتمع
الدولي، وهو سوف يحمي القتلة، لأنه مشارك في الجرم، ويحاول أن يحرّك الشارع
في سوريا وأيضا في لبنان، إذا استطاع، ولذا فهو يطلق كلمة السر التي سبق أن
أشار إليها عند خروج جيشه، وهي إسقاط "السابع عشر من أيار"، وكأننا لا زلنا
نعيش في بداية الثمانينات، وتحت وهج السوفيات، وحركات التحرر، وشعارات الأرض
السليب والاستعمار، وفورة القوميات التي بادت منذ الأربعينات.
الرئيس الأسد استنفد كل الوسائل، كما قال، ولكنه لم يجرب أن يقول الحقيقة
التي كانت ستنقذه من كل الشرور الآتية. فلماذا على السوريين أن يجابهوا
العالم من أجل أن يبقى المجرمون متحكمين بسوريا وبشعبها وبخيراتها وبمصيرها،
من أجل أن يتنعم قلّة من المحاسيب بملايين الدولارات بينما يتوق الملايين من
السوريين للقمة عيش شريفة يريدونها بعرق الجبين ولكن بدون إرهاب وخوف وذل
وشقاء.
الرئيس الأسد تهجم على رئيس الوزراء اللبناني، لأن هذا يريد أن يعمل بحسب
ضميره، وهو المجروح والمتألم من فقد رفيق الأيام وزميل الحلم بلبنان، يزينه
الاستقرار والهدوء، وينعم بنوه بالأمان بعد كل المآسي التي أرعبتهم.
الرئيس الأسد توجه إلى حلفائه في حزب الله بالإشارة إلى ما سماه المقاومة
ودعمها، فلم يكن من هؤلاء وهم لا يزالون بعيدين على ما يبدو عن أحلام
اللبنانيين بالوطن المستقر والمستقل وسيد نفسه، إلا أن خرجوا من جلسة مجلس
الوزراء وكأنهم سمعوا النداء واستجابوا له. لكن موقف الرئيس السنيورة وبقية
الوزراء كان مشرفا إذ أكملت الجلسة وتمت دراسة الخطاب والإشارة إليه في
البيان، ما أوضح مرة أخرى أن لبنان يستعيد عافيته وسيادته واستقلاله، بالرغم
من وجود من لا يزالون تحت الوصاية ورهن الإشارة لحماية مصالحة ضيقة
والاستقواء بمن كان في سبيل الحفاظ على هذه الامتيازات التي تبعد كل البعد عن
واقع لبنان وأهله وعن أمنياتهم وتطلعاتهم.
الرئيس الأسد قال كل شيء في هذا الخطاب، وهو قد يكون خطابه الأخير، لأنه لم
يترك مجالا للتفاوض ووضع نفسه في زاوية ضيقة بمواجهة العالم أجمع. فهل أن
دماء كل الذين سقطوا من تدخل سوريا في لبنان وغيره وكل دعوات الأرامل
والأيتام وعذاب المغيبين في السجون التي يحق فيها القول "بأن الداخل إليها
مفقود والخارج منها مولود"، ستلاقي استجابة ويأخذ العدل مجراه ويوقف المجرمون
الحقيقيون ومشجعوا التخريب والإرهاب وترتاح سوريا من سجّانيها وسلاّخيها،
وتعود العافية لأسواق دمشق وحلب، والازدهار للسهول التي كانت يوما أهراء
روما، والتلال التي زينتها الأديار والقديسين؟ أم أن السيف الذي تسلط على
رقاب اللبنانيين لن ينجوا منه أبناء سوريا، والمر الذي أذاقه هؤلاء لأبناء
هذا الجبل سوف يذوقه أبناء الغوطة قبل أن ينال هؤلاء جزاء أعمالهم؟
الأمور تبدو متسارعة، والمواجهة بين زعامة سوريا، مجتمعة هذه المرة، والعالم
أجمع لا بد واقعة، فهل تمر الأيام العصيبة هذه بالحد الأدنى من الخسائر؟
ولماذا على السوريين أن يشربوا كأساً شبيهة بكأس العراق، لا قدّر الله؟
|