أطفال لبنان ورؤية المستقبل
في 30- آب- 2005
المرحوم الدكتور
محمد علي مكي "عميد الجغرافيين" في الشرق الأوسط، أخبرنا مرة بأن أحد الباحثين
الأوروبيين في الجغرافية السياسية والذي زار جنوب لبنان برفقته، وهو كان قد زار
سابقا شمال إسرائيل، قال له بأنه يعتقد أن مجتمع جنوب لبنان هو أكثر استعدادا
للبقاء والاستمرار من المجتمع الذي يقابله في شمال إسرائيل، ومرد ذلك إلى أن
الأطفال في جنوب لبنان، كما لاحظ، يضحكون ويمرحون أكثر من أطفال شمال إسرائيل،
بالرغم من القلة التي كانت ظاهرة في جنوب لبنان بالنسبة للبحبوحة المقابلة في
شمال إسرائيل. هذا الحديث كان في السبعينات وقبل الحروب اللبنانية، أما اليوم
وبعد ثلاثين سنة على هذه الزيارة ماذا سيلاحظ زائر مماثل يا ترى؟ وهل بقي المرح
والضحك يرافقان ألعاب الأطفال في جنوب لبنان، أم ماذا؟
بالطبع إن زمن
الحروب لم يكن نزهة ممتعة للأطفال، وهو لن يكون كذلك أبدا وفي أي بلد وأي
مجتمع، ولذا فإن الشعوب المتقدمة تحاول دوما إبعاد الأطفال عن دوامات العنف
ومشاكل الكبار لتخلق أجيالا بعيدة عن التعقيد ومستعدة لتقبّل الحياة بصورة
طبيعية، فالمرح عنصر أساسي في تغذية الجسم الإنساني وتحضيره لمزيد من الحوافز
والنشاط ولحب الحياة الضروري للتقدم والعطاء.
الجنوب
اللبناني، وفي عز وجود الإسرائيليين، لم يُِدخل الأطفال في لعبة العنف بل
أبعدهم كليا حتى عن الحديث عن المآسي التي كانت تحيط بهم، وقد أخذ البعض على
الجنوبيين أنهم لم يعبّئوا الأجيال أيديولوجيا، وهو ما كان يتباهى به
الفلسطينيون وجماعة حزب الله.
اليوم يحكم حزب
الله الجنوب والبقاع والضاحية وهو يحضّر، كما يقول، أجيالا من "الإستشهاديين"،
فهل سيبقى مجال لأطفال لبنان لكي يضحكوا أو يمرحوا؟ أم أن الضحك سيمنع حتى على
هؤلاء الأطفال، بعد أن منع الفرح على الكبار؟
يوم دبّ اليأس
والإحباط في قلوب اللبنانيين وخاصة من يهمهم أمور الوطن، قام أحد "العباقرة"
اللبنانيين المخلصين، مشكورا، باختراع سبب للفرح، بأن أبعد اللبنانيين عن جو
السياسة الذي لا أمل فيه، يومها، والذي إنما يدعوا إلى الإحباط، ووجههم إلى
لعبة كرة السلة التي يمكن أن تؤمن نوعا من النصر لاستعادة جزء من الفرح الضروري
لاستمرار الحياة وزخمها. وكانت الأعجوبة؛ انتصارات متتالية لفريق "الحكمة"
أينما حلّ، وكان أن التفّ حوله كل اللبنانيين، وصار الأسطورة، وأعاد الفرح إلى
الناس كما في "جبال الصوان"، وثار هذا المجتمع على الضعف الذي فيه واستعاد
العافية، ولو بلعبة كرة السلة، ودارت مواكب السيارات عند كل نصر من المنطقة
الحدودية وحتى عكار. ولكن جماعات الحقد لم يعجبها هذا التصرف ولا هذا النفس
الذي أعاد الحياة لمجتمع كاد أن يفقدها، فإذا بالسيد نصر الله يهاجم "من
يتلهّون باللعب بينما المقاومون يقتلون في الحرب مع العدو"، وما كان من الفريق
المنتصر على مستوى عالمي، إلا أن قدّم الكأس لجماعات الحقد، فانتهت الفرحة، ولم
يعد بعدها وهج لا للفريق ولا للبنان. ونام الشعور بالنصر، وانكمد التوق إلى
الفرح في قلوب اللبنانيين.
ويوم قتلوا
الرئيس الحريري هب الكل مجتمعين للتعبير عن الغم الذي في القلوب، وتشارك
المخلصون للبنان في التظاهر من أجل خروج المحتلين وأدواتهم، وعاد الوهج، ودبت
الحياة، ولو بعد موت. ولم تشأ جماعات الحقد أن تلتحق بالمسيرة الوطنية بل
التحقت بفلول المطالبين ببقاء الاحتلال، فصادرت جزء من الوطن، واحتكرت طائفة
بكاملها، فكبّلت اللبنانيين وأجهضت "ثورة الأرز" التي رفضت العنف طريقا
للسيادة، وغلّفت الحزن على فقد الرئيس الحريري بفرح الحياة الطالع من القلوب
المكبوتة، والأحلام الممنوعة، والتي أخرجت الاحتلال، ولكنها لم تعد الحياة
للوطن ولا الفرح الكامل لبنيه.
ويتباهى نصر
الله بأنه يحتكر الانتحار وسيلة للقتال ويرفض أن يتساوى ببقية القوى في موضوع
تسليم السلاح للدولة وتركها تبسط الأمن والطمأنينة في الربوع، فهو يريد السيطرة
على البلد ويجهز دولته إن لم يستطع إلى ذلك سبيلا. ولكن هل يقدر مجتمع الحقد
على الاستمرار طويلا؟ أم أنه عاجلا أم آجلا سوف يتآكل من الداخل يوم لن يعد
عنده من يقاتله، ولذا فنصر الله، الذي لا يستطيع أن يتحكّم بنتائج الحقد الذي
يزرعه، سوف يفتش دوما على عدو يقاتله، كما حدث مع كثير من الثورات عبر التاريخ؟
لبنان اليوم سئم
الحقد ونتائجه وهو كره أن يبقى أهله يعيشون في مجتمع إرهابي يرهبهم هم قبل
الآخرين، وهم يريدون أن يكبر أطفالهم في أجواء الفرح وحب الحياة فيكونون مشاريع
للمستقبل وليس وسائل للحقد وأدوات للقتل.
في آخر تصريحاته
لإحدى الصحف الكويتية حاول زعيم حزب الله أن يقلل من شأن المسيحيين بأن شكك
بعددهم وادعى بأنهم لا يشكلون نسبة ثلاثين بالمائة من البلد، ونحن، بالرغم من
أننا لا نريد الدخول في جدال عقيم معه حول أعداد الطوائف في لبنان، ولا نريد أن
نذكّر أحدا بأن طائفة كالدروز مثلا، ولو لم تشكل خمسة بالمائة من الشعب
اللبناني، لها على لبنان أفضال لم يقم بها من يعد من الطوائف الكبرى اليوم،
ولذا فلن يكون العدد فقط هو ما يحدد القيمة الوطنية أو مقدار العطاء والفضل.
ولكننا نحب أن نشير إلى أن من أنزل إلى الشارع في ثلاث مرات متتالية أكثر من
مليون شخص كل مرة وفي بلد تعداد سكانه أقل من أربعة ملايين (مع من هم في الخارج
ومن أضيف إليهم زورا بالرغم من إرادة اللبنانيين، والكل يعلم، وخاصة حزب الله،
كم من أبناء طائفته أيضا موجود في الخارج)، لا يمكن أن يكون أقلية ولو استعان
حزب الله بمراكز الدراسات التي مولتها جهات نعرفها جيدا ونعرف خلفياتها وما
تضمره للبنان وشعبه، وكنا نحب فقط أن يتجرأ، ومن يقف بصفه، على خوض الانتخابات
بغير قانون الألفين حيث كانت ستظهر النتائج حقيقة الوضع في لبنان ومن هي
الأكثرية وما تمثل. ونتحدى حزب الله أن يسلّم سلاحه كبقية اللبنانيين ويتساوى
معهم لنرى من سيقبل به ممثلا حتى في بعلبك نفسها فكيف في الجنوب؟
أخيرا نحب أن
نقول لكل اللبنانيين بأن القتال الذي فرض عليهم جميعا لا يجب أن يمنعهم من
التفكير بالتخلص منه لتعود الحياة إلى مجاريها الطبيعية ويومها قد يعترف كثيرون
لكثيرين بأفضال قد لا تكون على بال أحد.
ويبقى فرح
الأطفال ومرحهم وآمال الشبيبة وطموحاتها هي من يرسم طرق المستقبل لشعوب
المنطقة، فهل سنحلم قريبا بالفرح الآتي؟ أم أن غيوما سوداء كثيرة لا تزال تتلبد
فوق منطقتنا العزيزة ولن يزول الغم قبل أن تزول؟
|