الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم أمام تحدي
جديد فهل يستمر الزخم
أم تعود إلى ثباتها الذي تعودته؟
الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم جهاز مهم يضم أكبر تجمع لمنظمات ونوادي
لبنانية في بلاد الاغتراب كانت الدولة اللبنانية في الستينات قد اعترفت
بأهميته للمساهمة في جمع لبنانيي الانتشار حول هدف موحد هو تنظيم هذه الطاقات
بشكل يساهم في دعم لبنان في العالم ويحسن صورته ويزيد من ربط بنيه بالوطن
الأم ومساعدته ماديا ومعنويا.
الجامعة الثقافية هذه، ككل الأجهزة اللبنانية في الحقبة الماضية، مرت بمرحلة
من الحماس إثر ولادتها، وخاصة في دول أميركا الجنوبية حيث الجاليات الكبرى من
أصل لبناني، ولكنها جاليات قديمة كان قد انقطع تواصلها بالبلد لعشرات السنين
وبقي العطف والفخر بالانتماء إلى وطن الأرز هو المحرك.
وكانت عملية التنظيم الأولي قد خلقت الكوادر والقانون وركبت مجلسا
عالميا بمساعدة وزارة الخارجية اللبنانية التي رعت المشروع ونزلت عند رغبة
المغتربين واندفاعهم. ولكن هذه الجامعة كانت نوعا
ما "فلكلورية" اكتفت بصورة لبنان السياحية لتكون مصدر جذب للبنانيي الانتشار
أو نقطة لقاء لهم. أما اللبنانيون في الوطن فقد كانوا دوما يعولون على هذا
المد البشري الذي دفعه القهر أحيانا والمغامرة أحيانا أخرى ليملئ الأرض وينجح
في أن يكون جزءا من دول كثيرة لها قدرة وتأثيرا تجعل من هؤلاء عمقا
استراتيجيا قد يمكن الاتكال عليه إذا ما تعرض الوطن للأزمات.
ويقع الوطن في المأزق الكبير، وتكثر الأطماع من حوله، ويطبق الأعداء عليه،
ويتطلع فلا يجد حليفا ولا معينا، وينتظر العون من أبنائه المنتشرين، ويتأمل
بالجامعة، ولو كانت ثقافية، فهي أكثر من يجدر به معرفة مشاكل لبنان، وهي من
يفترض به أن يتحرك في سبيل البلد، فإذا بها غير مهيأة لعمل سياسي وغير قادرة
على التحرك بالرغم من تمثيلها لعدد يناهز 12 مليون لبناني في بلاد الانتشار.
وتجري
بعض المحاولات الخجولة من متحمسين في اتجاه مساندة لبنان، وتقوم مظاهرات في
مرات محدودة وفي أماكن مبعثرة دون تركيز لا تعطي صورة حقيقية عن حجم التمثيل
ولا عن تفهم لمشاكل البلد، والمهم دون برنامج واضح ولا استمرارية.
ولكن
الاحتلال يتنبه لهذا الموضوع، ووحده يقدر بحق قيمة هذا الجهاز وأهميته، فيجند
الدولة، بعد سيطرته عليها، لتحول هذه الطاقة لصالحه، وتقضي حتى على الحلم
بمساعدة لبنان. ولكن المخلصين من أبناء الوطن،
وخاصة الذين عايشوا الأزمة وعرفوا نقاط الضعف والقوة في هذا الشعب، قرروا
محاربة الاحتلال من هذا الموقع الأخير المتبقي بعد احتلال كل لبنان وخنق
صوته. فكانت التحركات منذ 1992 ومحاولات خلق تيار داخل الجامعة يستطيع أن
يجعل منها أداة لصالح لبنان، ومنبرا يمكن أن يستعمل لشرح قضيته في المحافل
الدولية. ولكن وزارة الخارجية اللبنانية، وككل
أجهزة الدولة التي سيطر عليها الاحتلال، صادرت قرار الجامعة، وخلقت مجموعة
منعت أي تحرك حر. من هنا قامت حركة "تصحيحية" إذا صح التعبير، حاولت أن تخرج
الجامعة من سيطرة الأزلام، ولكن أدوات الاحتلال منعت الانتخاب وتغيير المجلس
العالمي ومددت لمن تريد فقسمت الجامعة وأقامت جهازا ينطق باسمها في بيروت
ولكنه لا ينطق باسم الاغتراب اللبناني الصحيح.
وبعد عدد من المؤتمرات التي ضمت مجموعة من أميركا الشمالية وأميركا الجنوبية
وأستراليا وأوروبا انتخب مجلس عالمي جديد شدد على ثوابت بالنسبة للوطن ودور
الجامعة، وقرر أن تقوم هذه المؤسسة الوطنية بدورها في سبيل الوطن، خاصة في
هذا الظرف الدقيق، فخاف جماعة الاحتلال من هذه الظاهرة ولم يعترفوا بالمجلس
الجديد وأبقوا على "مجلسهم"، ولكنهم في نفس الوقت حاولوا أن يهادنوه لكي
يمنعوه من اتخاذ أية خطوات فعالة. وينزل الرئيس
بشارة بشارة ليفاوض الدولة ويطالب بحل "مجلسها"
وتأييد الانتخابات التي نتج عنها مجلسا شرعيا، ولكنه لا ينجح كما هو متوقع،
لا بل يحاول جماعة الدولة أن يلعبوا لعبتهم بأن يطالبوا بتسوية تعود فيها
الجامعة لوصاية الدولة.
ويتم انتخاب مجلسا عالميا جديدا في 2003 برئاسة السيد جو بعيني الرئيس
الحالي، وينطلق هذا المجلس من أول أيامه ليقرر بأن لا مجلسا شرعيا سوى مجلسه
المنتخب، ولا صلاحية لوزارة الخارجية اللبنانية بالتدخل بشؤون الجامعة، ولا
تفاوض مع الدولة إلا على ثوابت أساسية؛ أولها أن لبنان دول محتلة ويجب أن
يزول هذا الاحتلال، وثانيها إن الجامعة يجب أن تصبح منظمة دولية غير حكومية
مع كل ما يرافق ذلك من حقوق في القانون الدولي، ويحق لها أن تقدم اقتراحات
تتعلق بالموضوع اللبناني لأي جهاز دولي، وهي سوف تعمل ما بوسعها لتحرير لبنان
بالطرق الديبلوماسية.
ويصبح الشغل الشاغل لمجلس الجامعة متابعة الموضوع اللبناني وملاحقة الدول
والمنظمات الدولية التي لها تأثير على هذا الموضوع، ومن هنا تأتي الزيارات
والنشاطات التي يقوم بها في الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية وأستراليا
وغيرها في سبيل تحريك الملف اللبناني واستغلال كل نقطة تؤدي إلى كسب مها كان
صغيرا. ويساند مجلس الجامعة كل التنظيمات في بلاد الاغتراب التي تقوم
بفعاليات في الاتجاه الصحيح، ويساهم في نشوء اللوبي اللبناني في الولايات
المتحدة، ويدعم مجهود المجموعة التي تتصل بالكونغرس في موضوع قرار "محاسبة
سوريا وتحرير لبنان"، ويقوم بزيارات متعددة لمجلس الأمن ولوفود الدول الأعضاء
فيه، ويقدم الدراسات والمشاريع، وفي النهاية يأتي القرار الدولي 1559 الذي
يطلب انسحاب جيوش الاحتلال واستخباراتهم وجمع أسلحة المليشيات والتنظيمات
والمخيمات على كافة الأراضي اللبنانية وكأنه تتويجا لهذه الجهود.
اليوم
بدأت التحضيرات لانتخاب مجلس عالمي جديد، وستجري هذه الانتخابات في استراليا،
بعد أن قام وفد من المجلس العالمي بجولة في أميركا اللاتينية ودعا الجميع إلى
الاشتراك في الانتخابات. فهل يأتي مجلس الجامعة الجديد مكملا لما بدأه هذا؟
أم أنه سوف يأتينا مجلس يعيد الجامعة إلى ثباتها
المعتاد؟
وزارة الخارجية اللبنانية، وحتى بعد ثورة الأرز وما جرى في بيروت من تغييرات،
لا تزال على حالها، فالوزير محمود حمود هو ممثل لبقايا الإدارة السورية
للديبلوماسية اللبنانية، وكل الطاقم الذي عمل معه لم يزل موجودا، ولم تزل
الخطط بالنسبة للتحرك الخارجي نفسها، وبالتالي موضوع إعادة ضرب الجامعة
ومحاولة تنفيس وهجها و"ضبط" عملها وإعادتها إلى الفلكلورية المعهودة، كما
يقول الرحابنة في إحدى مسرحياتهم أي: "تباوسوا
وتصوروا وتغدوا..." وقد بدأ العمل بالطريقة السورية، أي فرق تسد، ولذا فقد
طرح شعار في أميركا الجنوبية أنه يجب التخلص من جماعة أميركا الشمالية الذين
يديرون الجامعة اليوم، وهكذا فقد توجه أحد الأرجنتينيين إلى لبنان واجتمع
ببقايا النظام السوري من الوزير حمود إلى النائب ميشال
المر، الذي حاول ضرب المعارضة والالتفاف على التحرك الشعبي الناجح، والظهور
بمظهر المدافع عن المسيحية، وكأنه من المسيحيين الجدد الذين تنبهوا فجأة أنهم
مسيحيون، وهو لم يكن كذلك يوم حرم شقيقه غبريال
من مقعده النيابي وأغلق محطته التلفزيونية قاطعا أرزاق 400 عائلة دون أن يرمش
له جفن إن من الناحية الأخلاقية أو الدينية أو الإنسانية. السيد المر الذي لا
يزال ينفذ أوامر السوري يعمل اليوم على خربطة
انتخابات الجامعة بأن يدفع السيد بشارة بشارة
الذي كان رمز بدء التحول في الجامعة والذي ساهم في النقلة النوعية، ولكن
يعتقد بأن المشاورات التي خاضها في لبنان يومها ومغريات أصحاب السلطة قد تكون
أثرت عليه، ولذا فهم يريدونه أن يصبح حصان طروادة ليتم بواسطته إعادة الجامعة
إلى "الحضن" ومودرة أي من تحركاتها.
يبقى الأمل كبيرا باللبنانيين، وخاصة أولئك الذين يعرفون أين هي مكامن الضعف
والقوة، وكيف يستطيع اللبنانيون، بالرؤية السديدة والإخلاص للمبادئ، أن
يغيروا في السياسات العالمية لصالح وطنهم، ويستغلوا الطاقات اللبنانية في
بلاد الانتشار، لكي يعيدوا للبنان صورته الحقيقية، ويعيدوا له دوره الرائد في
شرقنا العزيز، لا ذلك الدور الذي أرادوه له؛ دور التابع والمصفق لنظام
ديكتاتوري يبعد كل البعد عن طبيعته، أو تلك الصورة التي أرادوها له، وهي صورة
الإرهابي ومروج المخدرات التي رافقته في ظل حكم الأوصياء ورجال الاحتلال.
الطريقة التي ستجري فيها انتخابات الجامعة وعدد المرشحين وأسماءهم تبعث على
الأمل، ولو حاولت بقايا النظام المخابراتي وفلول
الاحتلال التي لم يطالها التغير بعد أن تؤثر
عليها، ونحن نشكر الرئيس السيد جو بعيني وفريقه على كل ما قاموا به، ونتمنى
لو أن النظام الداخلي كان يسمح باستمرار هذا الفريق الذي أشعر اللبنانيين
لأول مرة بدور الجامعة، ولو أننا كنا نريد منها أن تكون أكثر تطرفا في
طروحاتها من أجل لبنان، ونحن نرى دورها في زمن
السلم؛ ضمير الوطن وحاميته من الوقوع في أخطاء السياسيين وألاعيبهم، لأنها
تمثل أغلبية اللبنانيين المنتشرين في بقاع الأرض والذين يرون بوضوح أين تؤدي
الأخطاء، فالناظر من البعيد يرى في أكثر الأحيان بشكل أوضح من الذي يعيش
الأزمة ويتفاعل مع عناصرها وتتداخل في آرائه المصالح الخاصة، وهي في كل آن
وجه لبنان الحر من أية تبعية، وممثلة لشعبه بكل فئاته، وصورة حية عنه، وهي
المحافظ على رباط كل لبناني أينما وجد مع اخوته اللبنانيين ومع وطنه الأم،
وهي المنهل الذي لا ينضب من الطاقات ومن الخبرات والتي يجب أن يستفيد منها
أبناءه. ولكننا نرى أن الخط الذي رسمه هذا الفريق يمكن استمراره في المرشحين
لمنصب الرئيس، والذين ساهموا بشكل فعال في الفريق المنتهية ولايته، فأمثال
المهندس حرب أو الدكتور رحمه أو الدكتور كرم أو السيد
غارابيت قادرون ولا شك على الاستمرار في حمل المشعل، ونحن إنما نريد
لهذه المؤسسة أن تكون بالفعل رائدة في بناء الإنسان في لبنان والعالم، لكي
نضمن أننا بهذا العمق الاستراتيجي الذي يمثله عالم الانتشار اللبناني، نحافظ
على ثبات الوطن وعلى قدرته لتجاوز المحن وعلى دوام التقدم نحو نظام شفاف يمثل
تطلعات المواطنين.
وفي النهاية نقول لمن يريد عزل طاقم "أميركا الشمالية" بأن رئيس الطاقم
الحالي كان استراليا، واستراليا هي الأبعد مسافة عن أميركا الشمالية، ولكن
تعاون أميركا الشمالية كما أوروبا وأميركا الجنوبية معه جعل السياسة الدولية
التي تؤثر فيها، شئنا أم أبينا، الولايات المتحدة، تأخذ لبنان بعين الاعتبار.
ومصلحة اللبنانيين التي لم تزل بحاجة لرعاية ودعم دوليين، هي في الإبقاء على
هذا التواصل مع من يرسم سياسة العالم اليوم، وجل ما نريد أن يبقى للبنان من
يسنده ليقف ويعود إلى دوره الريادي، ونحن بحاجة لكل لبناني أينما وجد ليسهم
في هذا الدور.
كندا 24 أيار 2005 |