مفهوم التعايش
فقد انتشر بين المسيحيين. اكليروسا ً وعلمانيين، مفهوم
خاطىء للتعايش يقض عليهم مضاجعهم. فكيفما تحركوا خافوا من مس التعايش
وكيفما تصرفوا امسكوا قلوبهم بأيديهم لئلا ينقضوا التعايش. فبات هم التعايش
يؤاكلهم. وتوسله بعض المصلحيين للمزايدة والتجارة. فأثاروا عند بعضنا
الشعور بالذنب. فتصورت الضحية أنها صارت جلادا ً .
لقد ظنوا أن التعايش محصور بالتساكن والتخالط وتداخل الناس في ما بين بعضهم
بعضا ً، حتى وان كانت محصلته تصادما ً وتذابحا ً ومآسي دورية.
التعايش بهذا المعنى يتناقض وحقيقته. وهو بذلك محصور في اطار بدائي، هامد،
بليد. أي التواجد بحكم الامر الواقع.
مثل هذا التعايش تجسده نيويورك وهونغ كونغ ومرسيليا، ويعيشه أقباط مصر
ومسلموها وهندوس الهند وسيخها... فهل هذا هو التعايش؟
الا يمكن للتعايش أن يتحقق اذا كنت، انا، وكل من اخوتي وابناء العمومة
والخؤولة في منزل خاص". نتعاون ونتعاضد ونتفاعل ونشد ازر بعضنا بعضا ً،
ويهب كل منا لمساعدة الآخرين على مصائب الدهر ومكائده؟
الا يكون المذكورون متعايشين الا اذا عاشوا في قاعة واحدة أسرتهم ملتصقة
بعضها ببعض، يأكلون من الصحن نفسه ويشربون من القدح ذاتها ؟
مثل هذا التعايش تصادمي حتما ً، انه أفضل شرط وأخصب أرض للاحتكاك والتضارب
والتعارض واثارة الحقد والبغضاء والكراهية، فأفضل وسيلة لدفع الناس إلى
التقوقع على الذات والانغلاق عليها.
أما حان لنا ان نتعظ بمثل هذه "التعايشات" المشرورة في غير مكان وبلد وقارة
في هذا العالم الفسيح والتي تلوثها كل يوم، وكل لحظة، دماء الابرياء في
حروب صراعية مريرة ؟
ان المسيحي " غير التعايشي " ليس مسيحيا ً .
انما التعايش هو التعايش في معناه الحقيقي، لا في معناه المزيف المشوه
المحرف.
التعايش يعني الا تتقوقع على ذاتك او تستعلي على الآخرين.
ولكن التعايش لا يعني ايضا ً أن تذوب في الآخرين. على العكس. انه يعني
الاقرار بوجود " آخرين " تتميز عنهم لتتعايش معهم. فالتعايش لا يكون بين
الذات والذات ذاتها. بل بين ذاتين، أو اكثر، متمايزتين.
ولكي يبقى التعايش قائما ً، فانه يفترض احترام التمايز والفروقات والحياة
الخاصة والتطلعات الشرعية الخاصة..
لذا، فان التعايش يعني الدخول مع الآخرين في حوار وتفهم وتفاهم .
انه يعني الاقرار للجميع بالحقوق الطبيعية والحقوق كافة التي اقرها الاعلان
العالمي لحقوق الانسان.
انه يفترض الحرية والشعور بالاطمئنان ووضع حق التمايز موضع الممارسة
الفعلية. كما يفترض الا يفسح في المجال لاي هيمنة أو ظلم او توتر أو صدام
أو تصارع دموى على السلطة .
لذا، فان التعايش يوجب تنظيم التنوعية على نحو تآلفي تضامني .
وتنظيم التنوعية في الظروف التاريخية الحالية يفترض، بنظري شكلا ً اتحاديا
ً للدولة اللبنانية فريدا ً وفذا ً .
ولا تقعن في جدال بيزنطي – قومي حول وحدة " الشعب اللبناني " . قد يكون
واحدا ً . وقد لا يكونه. قد ينظر احدنا إلى هذا الموضوع من زاوية معينة او
من زاوية اخرى. قد يخلص إلى نتيجة او إلى نتيجة مناقضة .
ولا نكونن فريسة اشعرة جوفاء تتهم الاتحادية بالتقسيم والصهينة ومعاداة
العالم الاسلامي العربي، ولا ننظرن إلى التقسيم وكأنه بعبع البعابيع وكارثة
الكوارث ونهاية العالم. ولا إلى الوحدوية المركزية الجاكوبينية وكأنها
ميناء الخلاص الوحيد الاوحد وقطب الحلول المرتجاة وامل المستقبل الذي لا
امل بعده.
هذه قبليات أبعدتنا كثيرا ً عن جادة الصواب واغرقتنا في ظلمات التهم
المتبادلة .
هناك امران لا اظن ان اثنين يجوز ان يختلفا حولها.
الاول، ان في لبنان، أاعجبنا ذلك ام لم يعجبنا، شعورين عميقين مختلفين،
ووعيين عميقين مختلفين، وردتي فعل عميقتين مختلفتين. ونظرتين مختلفتين،
بالعمق، إلى الدولة وسيادتها، ورؤيين مختلفتين، ان لم نقل متعارضتين...
وهذا كله – أيا ً تكن أسبابه – يفترض أن يكون ألف باء أي نظرة إلى أي حل
يعالج المسألة اللبنانية. وكل تجاهل لهذه المعطيات انسا ً يهيء انفجارا ً
لاحقا ً ينتظر فقط ظروفا ً موضوعية ليشتعل فتيله.
والامر الثاني، أن لا حل ابديا ازليا سرمديا ً في هذه الدنيا. الحياة، في
سيرها، في تطور وتغير مستمرين. الحياة تقدم كل يوم معطيات جديدة وقدرات
جديدة، مما يفترض تصورات جديدة. لذا فان الدينامية هي روح الحياة ونسغها.
انما في كل زمن، ورغم تعاقب الحلول، ينبغي ان يبقى خير الانسان، في ابعاده
كلها، غاية ومرتجى. وكل حل يقيم بحسب ما يقدمه لهذا الانسان، شخصا ً وجماعة
ومجتمعا ً، من ديمقراطية وحرية وعدالة ومساواة. فما يسيره في خط هذه الغاية
وجب ان نعمل له. وما يخالفه نناهضه بكل ما اوتينا من قوة .
|