تميّزت الحقبة
الاستقلاليّة اللبنانيّة، في مجملها وحتى الآن،
باللاإستقرار، ابتداءً من الحذر والبلبلة والقلق
والاضطراب، وصولاً إلى المناوشات والمنازعات والصدامات
والمواجهات العنيفة فالحروب الداخليّة.
وكان من جرّاء ذلك،
أنّ الدولة اللبنانيّة ما كانت، يومًا، تتقدّم خطوة في
الإنماء والهدوء، حتى تتراجع، أيّامًا وأيّامًا، خطوات
عديدة على الأصعدة كلّها. وتكاد تطغى على العقود التي
مرّت، منذ العام 1943، حكايات تفضيلِ مَن هم وراء
الحدود على مَن هم في داخلها، وضغوطِ الجوار بغية
تمرير مصالح، واستباحةِ أرض تحقيقًا لأطماع مغلّفة
بعقائد وإيديولوجيّات، والمشاركةِ المتساوية في السلطة،
ورفعِ الغبن عن هذا وإزالة الخوف من نفس ذاك، وأجيالٍ
تُهجَّر وتهاجر، واقتصادٍ يتهاوى، وتربيةٍ تتدنّى،
وقرفٍ عامٍّ يتنامى…
ولا يزال
اللبنانيّون يدفعون ثمنًا باهظًا من وجودهم وروحهم،
ويتساءلون: إلى أين؟ وما العمل؟
* * *
خلال تلك العقود
سعى مفكّرون للبحث في أمر ما يحصل. فلم يقم اتّفاق لا
على التشخيص ولا، بالنتيجة، على العلاج. والسبب الرئيس،
كما هو معروف في علم المنطق، اختلاف زوايا النظر إلى
الأمور وتناقضها. فحيث المنطلقات تتعارض، والتطلّعات
تتضارب، والأهداف تتباين، والمرامي تتنافر، يستحيل
الوصول إلى رؤى مشتركة، واختيارات متكاملة، وحلول
ملائمة.
وكان الموضوع
يُختصَر في الاقتناع أو عدم الاقتناع بالآتي، وهو أنّ
دولة لبنان باقية في جغرافيتَيها الطبيعيّة والبشريّة،
ما شاء الله لها أن تبقى، ديمقراطيّة، حرّة، سيّدة،
مستقلّة، مدنيّة، من غير أن تلتحق بسواها، أو ينتقض
منها شيء. إنّها حقيقة موضوعيّة قائمة، وحاجة أثبتت،
بنفسها، أنّها أقوى من الأوهام والظروف القاسية
والوحشيّة التي عانت منها.
غير أنّ ما كان
إلى الأمسِ أشبه بالحلم، صار واقعًا. فقد نفذ هذا
الاقتناع إلى وجدان شريحة عريضة من الشعب اللبنانيّ،
وإنْ لم يَسُدِ الجميعَ بعدُ. إنّ ما حصل في هذا
المجال لرائعٌ وعظيم. وهو اختبار ودليل حسّيّ أنّ مثل
هذا الاقتناع يمكن أن يعمّ المواطنين كافّة. وليس من
مبرّر، على الإطلاق، أن نتصوّر عكس ذلك.
تجسَّد هذا
الاقتناع بمبادئ، من مثل:
- لبنان أوّلاً،
- لبنان كيان
نهائيّ،
- لبنان دولة
عربيّة، سيّدة، حرّة، مستقلّة مدنيّة،
- لبنان لا
يُحكم من الخارج،
- حدود لبنان
مكرّسة،
- طابع لبنان
مسيحيّ-إسلاميّ،
- حقوق
اللبنانيّين وواجباتهم، طوائف وأفرادًا، متساوية
تمامًا…
ولكنّ هذا
الاقتناع في حاجة إلى أمرَين مهمَّين مترابطَين كي
يشمل المواطنين. الأوّل، أن نشعر، قاطبةً، أنّ
المؤمنين بهذه المبادئ صادقون، ويضعونها، فعلاً، موضع
التنفيذ والتحقيق. والثاني، أن نعمل، متضامنين، على
صيانتها وإثرائها باستنباط ما يوافقها، في حياة الوطن
العمليّة، تشريعيًّا وإجرائيًّا.
وسبق أن اقترح
سياسيّون وهيئات سياسيّة تغييرات بنيوية أساسيّة،
بالإضافة إلى مشاريع تنمويّة وإصلاحات هامّة في غير
مجال، بهدف الخروج من أجواء اللاإستقرار. فجاؤوا
بـ”اتّفاق الطائف” الذي لم يكن على قدر الآمال
المنشودة، على الرغم من أنه حدّ كثيرًا من الشعور
بالغبن الذي ساد، سابقًا، عند فئة من اللبنانيّين.
ولكنّ ثغراته الواسعة وتناقضه مع ذاته، في غير نطاق،
وسوء تطبيقه خلقت، لاحقًا، شعورًا بالغًا بالغبن عند
الفئة الأخرى من اللبنانيّين. وغيّروا في القوانين
الانتخابيّة، قبل الطائف وبعده، فازدادت الأمور
تعقيدًا. ونادوا بـ”الديمقراطيّة التوافقيّة” بخلفيّات
تُناقضها، فعطّلوا مفاعيلها. وكان رسميّون وقادة
شعبيّون ومفكّرون، قبل العام 1920 وبعده وحتى اليوم،
قد طالبوا بـ”حياد” لبنان في سياسته الخارجيّة،
اتّقاءً للخلافات الداخليّة. فجوبهوا برفض قاطع غير
قابل لأيّ بحث.
وفي نظرة
تحليليّة إلى فشل انتظامنا السياسيّ اللبنانيّ
المتتالي، يتبيّن أن أسبابه تعود، في جوهرها، إلى أنّ
المحاولات الإصلاحيّة لم تنبع من رؤية إصلاحيّة
متجانسة متكاملة. فسِرنا في متاهات، وداعبنا أوهامًا،
فغرقنا في ما نحن فيه.
فللخروج من
مآزقنا،
ولتثبيت المبادئ
المنوّه بها،
وللوصول إلى
الرؤية المتجانسة المتكاملة،
لا بدّ من
الانطلاق من الحقيقتَين الآتيتَين:
- المجتمع
اللبنانيّ تعدّديّ. تعدّديّته ثنائيّة-كِثاريّة:
ثنائيّة دينيّة وكثاريّة طوائفيّة.
- وجوب تطابق
البنية الفوقيّة (شكل الدولة ونظامها وسياستها)
البنيةَ التحتيّة (الواقع المجتمعيّ اللبنانيّ
التعدّديّ).
من هنا تبدأ
رحلة العمل الذي يُفترض أن يتولاّها اللبنانيّون
بأنفسهم وبجدّيّة. فتكون “الرؤية” عطاءً لبنانيًّا
صريحًا، تشكّل لهم ثقافة سياسيّة ثريّة.
فإلى الحوار
والنقاش، أيّها اللبنانيّون. وليكن مستقبلكم ومستقبل
أولادكم وحفدائكم من صنع أيديكم الشريفة.