الكلدان الآشوريون السريان شعب واحد  يسمى بالشعب الآرامي

 

انطوان نجمانطوان نجم

 

اقرأ المزيد...


الحياد الدوَليّ الدائم

20110317

يُعتبر لبنان في طليعة الدول التي ترتبط سياستها لخارجيّة بوضعها الداخليّ ارتباطًا وثيقًا إلى حدّ أنّ انعكاسهما، بعضهما على بعض، سلبًا أو إيجابًا، أصبح من ثوابت الواقع اللبنانـيّ.

وفي كلّ مرّة كانت السياسة الخارجيّة اللبنانيّة تابعة لمحور من المحاور، أو مشلولة النشاط، أو بعيدة من الفعل في أيّ محفِل، كان السبب في ذلك يعود إلى الانفلاع الداخليّ الذي يمزّق المجتمع اللبنانيّ. وفي كل مرّة، أرادت فيها الدبلوماسيّة اتّخاذ موقف واضح صريح من أمر معيّن لم "يجمع" اللبنانيّون عليه، كانت النتيجة انقسامًا في المجتمع اللبنانيّ قد يذهب إلى حدّ التقاتل.

ولا يبدو أنّ في إمكان السياسة الخارجيّة اللبنانيّة أن تتفادى التفتيش عن الأرضيّة المناسبة التي-انطلاقًا منها-تتمكّن من التعبير عن واقعنا وعن التوازن المنشود في المجتمع اللبنانيّ، وعن تجسيد آمال المجتمع وتطلعاته، في آن معًا. ومَن يستعرض تاريخ السياسة الخارجيّة اللبنانيّة، منذ الاستقلال، يرَ أنّ الدولة لم تفلح على الإطلاق في التهرّب من اختيار هذه الأرضيّة وتحديدها. فقد كانت سياسة دولتنا الخارجيّة تنحدر أبدًا في مهاوي التردّد والضعف حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه.

وكي نستشفَّ معالم هذه الأرضيّة، لا بدّ من تحديد منطلقات السياسة الخارجيّة.

السياسة الخارجيّة هي ثمرة المعطيات الجغرافيّة والتاريخيّة والتركيب البشريّ اللبنانيّ. ويضاف إليها، في كلّ مرحلة، تحديد واضح لدورها ولمراميها وللتوازنات الإقليميّة والدوَليّة، إلخ.

فما هي الخطوط العريضة للمعطيات السياسة الخارجيّة اللبنانيّة؟

أوّلاً: جغرافيًّا

مركز لبنان على الباب الآسيوي يجعله ينتمي إلى قارّات العالم القديم الثلاث معًا. وعلوّ جباله يجعله يراقب محيطه مباشرة وعلى مدى شعاعيّ طويل. ولهذا الوضع الممتاز تأثيره العسكريّ الكبير، لو أراد لبنان أن يكون فاعلاً في حلف عسكريّ.

وفضلاً عن ذلك، تتحكّم جباله إلى مسافة كبيرة بمُناخ المنطقة الوسطى من المشرق المقابلة له، وبنوعية الإنتاج الزراعي لمجمل الأرض اللبنانيّة.

لكن خصوصيّة هذا الجبل أنّه مطبوع بطابع إنسانيّ أكثر من أيّ جبل آخر في محيطه بسبب ارتباط مصير الأقليّات الدينيّة به تاريخيًّا.

ثانيًا: التركيب البشريّ اللبنانيّ

يتقاسم اللبنانيّين اتّجاهان مختلفان:

- إتّجاه إسلاميّ لا يمكن فصله، على الإطلاق، عن السياق الإسلاميّ، عمومًا، والإسلاميّ العربيّ، خصوصًا عند السنّة، والإسلاميّ الشيعيّ عند الشيعة. وسيبقى المسلم اللبنانـيّ مرتبطًا بالعالم الإسلاميّ، روحيًّا ووجدانيًّا وإنسانيًّا وسياسيًّا. وهو أمر بديهيّ وطبيعيّ وشرعيّ، يقتضي الإقرار به، والعمل على تحقيقه على نحو لا يتعارض والمصلحة اللبنانيّة العامّة.

- واتّجاه مسيحيّ لا يمكن فصله، على الإطلاق، عن حضارة قِيَم العالم المسيحيّ. فالمسيحيّ مرتبطٌ بهذه القِيَم أحشائيًّا. وهو أمر بديهيّ وطبيعيّ وشرعيّ، وهو مُنظَّم، واقعيًّا عمليًّا، على نحو لا يتعارض والمصلحة اللبنانيّة العامّة.

وهذان الاتّجاهان يلتقيان في اعتبار العالم الإسلاميّ، والعربيّ منه، مجالاً أوّلَ للتفاعل الإنسانـيّ والثقافيّ والحضاريّ، وللفعل الإنمائيّ والاقتصاديّ والتقنيّ... نقطة الالتقاء هذه تشكّل أهمية قصوى في حياة لبنان.

وإذا أجمع اللبنانيّون، بالإضافة إلى ذلك، على القبول بالواقع التعدّدي اللبناني، شكّل دور لبنان نقطة التقاء أخرى، تغذّي السياسة الخارجيّة اللبنانيّة وتعطيها طاقة فعل كبرى.

ثالثًا: تاريخيًّا

بسبب التركيبة البشريّة اللبنانيّة، ومنذ فخر الدين الثاني-على نحو بارز-وحتى قرارات مجلس الأمن الدوَليّ المتعلقة بلبنان، مرورًا بكلّ ما طرأ على الأرض اللبنانيّة من متغيّرات سياسيّة، ثبت تاريخيًّا أنّ الشرق والغرب معًا كانا دائمَي التأثير في السياسة اللبنانيّة، عبْر التأثير في المجموعات اللبنانيّة. وبمقدار ما كانت إحدى المجموعات اللبنانيّة تقوّي صِلاتها الخارجيّة، كانت تقوى داخليًّا. ويوم كانت هذه الصِلات غير متضاربة وغير متعارضة، أو بالعكس، كان السلام يخيّم على الربوع اللبنانيّة أو بالعكس. ومن جهة أخرى، أظهرت مواقف مجلس الأمن الدوَليّ في قرارات وقف إطلاق النار في لبنان، أنّ الصراع في لبنان يمكن أن يهدّد استقرار المنطقة، وحتى السلام العالميّ.

على هذا، وفي ضوء الخطوط العريضة والتجربة التي عاشتها الدولة اللبنانيّة، منذ الاستقلال حتى اليوم، نرى أنّ الأرضيّة التي يجب أن تنطلق منها سياسة لبنان الخارجيّة هي "حياد لبنان الدوَليّ الدائم"، علمًا بأنّ اختيار الحياد ليس فعلاً نزويًّا أو اصطناعيًّا، وإنما هو تجاوب طبيعيّ مع حاجة ملموسة.

وممّا يلفت أنّ 7 من 12 عضوًا من "مجلس إدارة لبنان"[1]، في مضبطة لهم بتاريخ 10 تمّوز 1920، أيْ قبل قيام دولة لبنان الحاليّة، وبرؤية مستقبليّة استباقيّة مثيرة للإعجاب، طالبوا، إلى جانب "استقلال لبنان التّامّ المطلق"، بـ"حياده السياسيّ بحيث لا يحارِب ولا يحارَب ويكون بمعزل عن كلّ تدخّل حربيّ." ووقّع المضبطةَ الحاج محمّد حسن، الياس الشويري، فؤاد عبد الملك، محمود جنبلاط، سليمان كنعان، خليل عقل، سعد الله حويّك[2] (شقيق البطريرك الياس الحويّك).

ما هو الحياد الدائم؟

"الحياد الدائم هو الوضع القانونيّ والسياسيّ لبلاد يفرض نظامها الدوَليّ الامتناع عن كلّ عمل من شأنه جرّها إلى نزاع مسلّح قائم، أو محتمل، أو مسّ عدم الانحياز الذي ينبغي أن يسود علاقاتها مع سائر الدول، أيّام السلم والحرب". إنّه "وضع اتّفاقيّ يتّخذ في كلّ حالة وجهًا خاصًّا".

فانطلاقًا من هذا التعريف، إنّ حياد لبنان يبعده عن أيّ حلف عسكريّ، أو عن أيّ حرب إقليميّة أو دوَليّة. وفي ذلك نعمة للاستقرار اللبنانيّ ومساهمة في السلام العالميّ. وهذا لا يمنع أن يكون للبنان جيش قويّ، حاضر دائمًا للذود عنه، إذا شاءت دولة ما خرق هذا الحياد. فحياد سويسرة لم يمنعها من إنشاء جيش هو من أفضل الجيوش عدّةً وتدريبًا.

وحياد لبنان يبعده عن أيّ محور سياسيّ، فيتجنب مجتمعنا التمزّق الداخليّ الذي يصيبنا في كلّ مرّة تنحاز الدولة (أو ينحاز أيّ فريق في لبنان) إلى معسكر سياسيّ معيّن. ثمّ لا يعود أيّ فريق لبنانيّ يحتاج، في حال إعلان الحياد الدائم، إلى الارتباط السياسيّ بأيّ دولة خارجيّة. فالحياد يؤمّن التوازن السياسيّ الخارجيّ الذي ينعكس توازنًا سياسيًّا داخليًّا.

وحياد لبنان يعطي الدولة جرأة على الوقوف في وجه أيّ محاولة عربيّة أو غير عربيّة، لتوظيف شعور أيّ فئة لبنانيّة من أجل مصالح لا تخدم لبنان ولا تخدم شعبه.

وحياد لبنان يجعله مركزًا ماليًّا واقتصاديًّا يرتاح إليه الجميع. فيحقّق لبنان دورًا أصيلاً في تقوية العلاقات بين الناس وفي أنحاء العالم الإسلاميّ العربي وغير العربيّ.

وحياد لبنان لا يعني أن يُضطرّ، في ظرف ما، إلى التنازل عن حقوق له. "الحياد لا يعني التنازل عن الحقوق، إنّما هو السعي للبقاء خارج كلّ نزاع في الحاضر والمستقبل. لكنّ لهذا السعي حدودًا هي مصالح الدولة العليا التي لا يمكن أن يُضحّى بها".

ومن نتائج الحياد اللبنانيّ أن ينسحب لبنان من معاهدة الدفاع العربيّ المشترك ومن اللجنة السياسيّة لجامعة الدول العربيّة فقط. ولكنّه ليس ملزمًا بالانسحاب من الجمعيّة العموميّة لهيئة الأمم المتحدة. فالسابقة النمساويّة، من هذا القبيل، برهان وحجّة. فهيئة الأمم المتحدة أقرّت بمبدإ التلاؤم بين الحياد الدائم وميثاقها عندما قبلت النمسة عضوًا فيها، بعدما كانت النمسة قد أعلنت حيادها. وقد تمّ القبول، من غير مناقشة، بناء على توصية مجلس الأمن بتاريخ 14/12/1955. وبذلك تكون الدول الأعضاء في الأمم المتحدة قد التزمت ضمنًا بعدم دعوة النمسة إلى اتخاذ تدابير التنفيذ الجبري التي تنصّ عليها المادة 39 وما يليها من الميثاق.

أمّا الانتماء إلى المنظمات غير السياسيّة وغير العسكريّة، فإن الحياد لا يمنعه. فلبنان المحايد ينتسب إلى المؤسسات والمنظمات الثقافيّة والاقتصاديّة والعلميّة، العربيّة منها والإقليميّة والدوَليّة، فيعمّق بذلك التعاون الدوَليّ الإنسانيّ.

وكي يتحقّق حياد لبنان الدوَليّ الدائم، يجب أن يقرّه اللبنانيّون ويطالبوا به، ويقبلَ به العرب وهيئة الأمم المتحدة.

ولا يفترض أن يعارض اللبنانيّون فكرة الحياد، وخصوصًا المسلمون منهم، لأنّ القضية الفلسطينية، التي كانت تشكّل العائق الأكبر دون تحقيقه، أخذت طريق مفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل، بعدما اعترف العرب بدولة إسرائيل. فقد عقدت كلّ من مصر والمملكة الأردنيّة الهاشميّة معاهدة سلام معها. واعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بها في مؤتمرها في الجزائر في العام 1988، وثبّت هذا الاعتراف بموافقة عربيّة إجماعيّة في القمة العربيّة المنعقدة في الدار البيضاء في العام 1989. ثمّ عقدت منظّمة التحرير الفلسطينيّة مع إسرائيل اتّفاق أوسلو في العام 1993. والمفاوضات بين الفريقَين قائمة على قدم وساق. ولهيئات وطنيّة ومفكّرين وصحافيّين وسياسيّين وأفراد مرموقين، داخل لبنان وخارجه، موقف علنيّ وصريح مطالِب بحياد لبنان، ومؤيّد له بقوّة.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها