مقالات
سابقة للكاتبة
راغدة درغام
(ولدت في بيروت سنة 1953) صحفية و محللة سياسية لبنانية-أمريكية تعمل مديرة
مكتب جريدة الحياة في نيويورك في مقر هيئة الأمم المتحدة منذ 1989
اغتيال شطح رسالة موجهة إلى أكثر من عنوان
راغدة درغام
الجمعة ٣ يناير ٢٠١٤
تستغل عدة قوى في منطقة الشرق الأوسط عزم الولايات المتحدة على عدم
الانجرار إلى ساحات القتال الإقليمية لفرض أجندتها في النصف الأول من هذه
السنة، أي مثل استحقاقات الروزنامة الأميركية التي تتخذ المفاوضات النووية
الإيرانية وتدمير الترسانة الكيماوية السورية أولوية قاطعة لها. محطة
المفاوضات السياسية المفترض انطلاقها في مؤتمر جنيف 2 للاتفاق على هيئة
انتقالية في سورية ذات صلاحيات كاملة ليست محطة حاسمة، على أهميتها.
وبالتالي، أن موازين القوى العسكرية على ساحة القتال السورية ستتطلب
تصعيداً دموياً مدمراً لكنها لن تُحسَم قطعاً لصالح النظام في دمشق الذي
يعتبر نفسها منتصراً. الموعد الأهم هو موعد انعقاد الانتخابات الرئاسية
السورية في حزيران (يونيو) التي يهيئ الرئيس السوري بشار الأسد نفسه لخوضها
متكئاً إلى دعم حليفيه الروسي والإيراني وقلقاً في الوقت ذاته من صفقة
التسوية الكبرى بين حليفيه والولايات المتحدة التي قد تتطلب الاستغناء عنه.
أركان النظام في دمشق يتحدثون بلغة الثقة العارمة بالنفس ويتصرفون بغطرسة
المنتصر الذي تهرول إليه أجهزة الاستخبارات الغربية للتنسيق معه في الحرب
على الإرهاب في الساحة السورية. استراتيجية دمشق تقوم على شق تطويق «جبهة
النصرة» وأمثالها و «القاعدة» ومشتقاتها قرب الحدود مع تركيا لاستدعاء
شراكة فعلية ملموسة وجدية مع الدول الغربية – وليس فقط مع روسيا – في معركة
القضاء على هذه التنظيمات. وفي حال تلكؤ الغرب في هذه الشراكة التحالفية،
لن تخوض دمشق الحرب بمفردها وإنما ستستخدم «الورقة» من أجل «إقناع» الغرب
بما تريده دمشق بلغة مختلفة. الشق الآخر من الاستراتيجية السورية يرتكن
أكثر إلى الأجندة التي يرسمها الحرس الثوري الإيراني في لبنان والعراق – مع
إيلاء الأولوية إلى الساحة اللبنانية الجاهزة للاستقطاب وللتفجيرات. ولأن
هذه الساحة مُُختَرقة من أكثر من جهة وطرف، يقف الأعداء على أهبة الاستعداد
لاستخدام لبنان محطة إطلاق الرسائل – عبر السيارات المفخخة والاغتيالات
وغيرها – ليس فقط لبعضهم البعض ولا فقط إلى اللاعبين الإقليميين وإنما
أيضاً إلى اللاعبين الدوليين وعلى رأسهم الولايات المتحدة. لذلك، إن لبنان
في عين العاصفة بما يتطلب من الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكف عن
«استصغاره» مقياساً مع الأولوية الكبرى لهذه الدول، أي التفاهم مع
الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فإذا ما انتقلت الحرب السورية إلى لبنان،
فإن هذه الدول تكون فعلاً مساهماً مباشراً في هذا التطور الخطير الذي سيرتد
عليها في نهاية المطاف، كما سيرتد على الصين وروسيا. فالإرهاب الذي أصاب
فولغاغراد شهادة على فشل السياسة الروسية – وقبلها السياسة الأميركية –
القائمة على استدعاء الإرهابيين إلى سورية اليوم والعراق بالأمس من أجل
إبعاد الإرهاب عن المدن الروسية والأميركية. تقنين الإرهاب في فئة واحدة
بإعفاء الآخرين الذين يمارسون إرهاباً مماثلاً سياسة بائسة ومؤذية إذ يجب
الوقوف حقاً في وجه كل أساليب الترهيب أياً كانت ومن أية جهة أتت. أما
اختزال سورية اليوم ولبنان غداً والعراق بالأمس إلى «حرب على الإرهاب» فإنه
خداع يتبناه المخادعون كل لغاياته وأجندته في زمن استغلال الروزنامات
النووية والكيماوية والسياسية، الفعلية منها والوهمية.
قبل نهاية 2013 اغتيل في لبنان رجل فكر ورجل حوار أُطلق على تفجيره عبر
سيارة مفخخة «اغتيال الاعتدال». الوزير والسفير والمستشار السياسي والموظف
السابق في البنك الدولي، الدكتور محمد شطح، كان يسعى للبناء على الانفتاح
الجديد في الجمهورية الإسلامية الإيرانية ووجه رسالة مفتوحة إلى الرئيس
الجديد حسن روحاني نشرتها صحيفة «وول ستريت جورنال» بعد اغتياله.
صباح ذلك اليوم – يوم الجمعة الماضي – صدف أن أربعة شباب كانوا يتمازحون
ويلتقطون الصور مقابل تلك السيارة المفخخة التي قادها مجرم لتحل مكان سيارة
أخرى حجزت المكان قادها مجرم آخر ربما لاستخدامها في جريمة أخرى. أحد هؤلاء
الشبان، ابن الـ16 سنة، محمد الشعار ذهب ضحية بريئة للانفجار المرعب الذي
اُختير موقعه في قلب المربع الأمني في بيروت بقرب الفنادق وعلى الطريق
المؤدية إلى «بيت الوسط» الذي توجه إليه قادة 14 آذار للاجتماع.
أكاد أتصور تماماً الهلع والذعر الذي أصاب الشبان الأربعة لحظة الانفجار
لأنني أُصبت بهلع وذعر مماثلين نظراً لموقع الفندق الذي أقمت فيه بقرب بالغ
لموقع الانفجار. لامست الإرهاب لأول مرة بعدما كنت تصوّرته عندما اغتيل
أصدقاء كثيرون معظمهم بسيارات مفخخة مماثلة. محمد شطح كان صديقاً منهم أما
محمد الشعار فإنه أصبح ابناً مجهولاً بكيت كثيراً عليه. انه نموذج الضحية
البريئة المارة في السبيل الذي يعرف الإرهابيون تماماً أنها في الجوار.
لم يتبنّ أي طرف رسمياً هذه العملية ذات الرسائل المتعددة والموجّهة إلى
أكثر من عنوان. ترهيب اللبنانيين والأجانب في الفنادق ترك أثراً بالتأكيد
لكنه لم يثنهم عن المضي بالعيش رفضاً للخضوع للرعب وسيلة للتموضع في مربّع
الهيمنة ووهم الانتصار.
بعض سلفيي طرابلس، بحسب ما يقال، وصف محمد شطح المنفتح على الحوار والتواصل
مع الاعتدال بأنه «ملحد ومرتد» نتيجة مواقفه ضد الموجات التكفيرية. وذكرت
الصحافة اللبنانية أن تيار أهل السنّة السلفي أصدر بياناً نفى فيه علاقة
القوى السلفية بعملية اغتيال ابن طرابلس، من دون إدانة الاغتيال.
قيادات 14 آذار اتهمت «حزب الله» وحليفيه الإيراني والسوري واعتبرت أن
بصمات اغتيال شطح هي ذاتها بصمات اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري
الذي تنعقد المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قريباً في محاكمة غيابية
للمتهمين باغتياله وهم كوادر في «حزب الله».
محمد شطح كان مُحتَرماً من قِبَل جميع السفراء في بيروت، سيما سفراء الدول
الغربية. علاقاته مع واشنطن ومع الأمم المتحدة كانت مميزة لا سيما أنه كان
يعمل نحو البناء على الانفتاح في عهد الرئيس حسن روحاني من أجل إبعاد لبنان
عن الحرب السورية بكل أطيافها. كان يأمل أن يصدر مجلس الأمن موقفاً يدعم
تحييد لبنان عن جنون ما يحدث في سورية.
اغتياله يوجه رسالة إلى واشنطن بالدرجة الأولى فحواها أن انشغالها بإرضاء
طهران وإصرارها على روزنامة الصبر العارم حتى حزيران (يونيو) لاستكمال
برنامج تدمير الترسانة الكيماوية السورية سيجبرها على الخضوع بلا أي رد ذي
معنى على أية عمليات، بما فيها اغتيال الاعتدال أو اغتيال صديق أو اغتيال
فكرة البناء على الانفتاح. انه توظيف دقيق لروزنامة الصبر باستغلال فاضح
لتسويق روزنامة التموضع.
لذلك، على واشنطن أن تدرس بعمق ماذا ستفعل إزاء هذا الاستفزاز وما يليه من
عمليات وإجراءات ومواقف وتفجيرات أمنية آتية إلى لبنان استغلالاً للتغيب
والامتناع الأميركي عن إبلاغ صارم برفض جدي لها.
ألمانيا مُطالبة بالتوقف قليلاً على مفترق إفرازات هرولتها إلى طهران ودمشق
وتبنيها الموقف الروسي كيفما كان لتتواضع بعض الشيء وتبعث رسالة في شأن
لبنان. فألمانيا تقود مسيرة الركوع عند ما تتطلبه الجمهورية الإسلامية
الإيرانية وقد حان لها أن توظف بعض نفوذها لإنقاذ لبنان من الانهيار بين
فكي الحرس الثوري الإيراني وحلفائه من جهة والجهاديين التكفيريين من جهة
أخرى.
أوروبا منقسمة بالتأكيد حيث أن فرنسا تبنت موقفاً غير ذلك الذي تتبناه
ألمانيا وتوافق عليه بريطانيا ضمناً – ومعهما إدارة أوباما – في شأن سورية
كما في شأن موازين العلاقة الإيرانية – السعودية. السياسة الفرنسية لها صيت
التأرجح إنما ما تقوم به بريطانيا فإنه تراجع وليس مجرد افتقاد التماسك نحو
سورية وكذلك لبنان.
القرار السعودي – الفرنسي بدعم الجيش اللبناني قرار صائب وضروري مع أن
توقيته ليس مثالياً لأنه يفتح الباب على تأويلات بأن صفقة الـ3 بلايين
دولار التي تعهدت بها المملكة العربية السعودية لشراء أسلحة فرنسية للجيش
اللبناني لها أهداف سياسية. ما يجدر ببريطانيا وألمانيا القيام به هو تقديم
هبات مماثلة للجيش اللبناني لأنه مفتاح الحفاظ على الأمن وبقاء الدولة
بدلاً من سقوطهما معاً في معارك التموضع أو الهيمنة أو الإملاء من أي طرف
كان. كذلك على الرئيس باراك أوباما أن يتنازل قليلاً عن ترفعه عن المسألة
اللبنانية ليقدم دعماً ملموساً لمؤسسات الدولة اللبنانية وليبلغ المعنيين
أنه من غير المسموح مصادرة الدولة والعملية الديموقراطية والدستورية بهدف
إحداث فراغٍ عمداً.
الرئيس أوباما الذي يراهن على الانفتاح الذي يمثله الرئيس روحاني في طهران
يدرك جيداً أن المعركة الداخلية في إيران إما جدية أو أنها مسرحية دمى
متحركة، وأن في الحالتين للحرس الثوري ومرشد الجمهورية آية الله علي خامنئي
أجندة استفادة من إقبال أوباما على طهران. أخلاقياً وسياسياً ومن أجل
المصلحة الأميركية البعيدة المدى، يجدر بالرئيس الأميركي ألاّ يغض النظر
عما يحدث في لبنان لأنه امتداد لغض نظره عما حدث ويحدث في سورية.
وبالتأكيد، يدرك باراك أوباما جيداً أن الحكومة السورية الشريكة له في
اتفاق الإطار الكيماوي عازمة على الاستفادة من امتناعه عن استدراجه إلى وحل
المستنقع السوري. لذلك لا تخشى رد الفعل على البراميل المتفجرة التي تدفقها
على الإرهابيين – كما تقول – غير مبالية بالأبرياء الذين تفجر فيهم أساليب
الترهيب المرعبة هذه. إنها تراهن على الروزنامة التي باتت فيها شريكاً
ضرورياً وهي تعتبر الفسحة الزمنية للأشهر الستة الآتية بمثابة تأشيرة لها
لا سيما أنها تقدم نفسها شريكاً في مكافحة الإرهاب.
أحد المقربين جداً من أركان النظام في دمشق تحدث ببالغ الثقة والارتياح إلى
هرولة الأجهزة الاستخبارية إلى دمشق وتوعد بأن انتصار الرئيس بشار الأسد
ستدفع ثمنه دول عربية. تحدث بلغة «القلق» على المملكة العربية السعودية
التي تنطوي على توعّد يقين بعودة إرهاب «القاعدة» إليها. قال إن سورية
اليوم تؤمن بإيران أولاً وأن هويتها العربية لم تأتِ عليها بما تريده. شرح
أن تطويق التكفيريين من «القاعدة» و «جبهة النصرة» وأمثالها سيكون بهدف
صياغة شراكة فعلية مع الغرب والشرق للقضاء عليهم. قال إن في حال تلكؤ الغرب
عن التحالف مع دمشق في تطور نوعي في هذا المسعى سيؤدي بدمشق إلى الاكتفاء
بتواجد الجهاديين في بقعة داخل سورية بقرب تركيا للاستخدام لاحقاً.
أهذا إفراط في الثقة؟ أو هو تضخيم يخبئ في طياته بعض القلق من تلك التسوية
الكبرى التي تُحاك؟ أو أن هذه هي حقاً المحطات الآتية في استراتيجية النظام
في دمشق الذي يؤمن حقاً بأنه حقق الانتصار؟
أكثر الأجوبة قرباً إلى الواقع هو أن سورية ما زالت في مرحلة الفرز، كما
إيران، كما لبنان بشقه الحكومي وبشقي «حزب الله» والجهاديين الجدد فيه.
ما يحدث بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والغرب هو أيضاً قيد الفرز.
انتصار إيران في سورية وهزيمة دول الخليج فيها أيضاً ليس أمراً ثابتاً
وإنما هو قيد الفرز.
مَن قد يدفع ثمن المكابرة هو الذي «يوسّع بيكاره» أكثر من قدرته وواقع
أمره.
لذلك، إن المرحلة الآتية معقدة ستحمل في طياتها دموية مقرفة باسم الحرب على
الإرهاب الذي لا تبرأ منه الدول والأطراف التي تتعهد بالقضاء عليه – فهو
مصنوع أساساً على أيديها كلٌ بمساهماته المميزة. هذه مرحلة ستثير القرف
أيضاً لما تنطوي عليه من مختلف أنواع الترهيب ومختلف طبقات الانخراط
والامتناع.
لبنان محطة هشة يجب على الأسرة الدولية، لا سيما الدول الخمس الدائمة
العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا، أن تقرر جدياً أنها لن تسمح له أن
يتحول دولة سائبة أو مارقة. إنها معركة يجب ألا تخسرها هذه الدول وسط
هرولتها إلى طهران نووياً أو إلى دمشق كيماوياً وإرهابياً والغمامات على
عيونها تعميها عما هو تحت أنفها.
كذلك على الدول الإقليمية الفاعلة أن توقف المكابرة بالتوصل الضروري إلى
تفاهم بينهما يبلّغ اللاعبين المحليين والقيادات في سورية أن من الممنوع
التباهي بالقدرة على التعطيل والتدمير والترهيب وتفريغ مؤسسات الدولة
الدستورية. فإذا غاب التفاهم بينهما وفشلت الجهود العقلانية، يدخل لبنان في
متاهة مرعبة. لذلك من المهم للغاية أن تقول الدولة العاقلة، العربية منها
والغربية، باعتماد سياسة متماسكة وسخية لدعم مؤسسات الدولة ومنع السقوط في
حلقة مفرغة.
الحسرة على الذي يدفع ثمن جنون الهيمنة وأوهام الانتصار. أما الشعور بالذنب
فإنه يجب أن يلاحق ليس فقط الذين يقترفون الجرائم وإنما أيضاً أولئك الذين
يسكتون على اغتيال الاعتدال والبراءة الذي يمثله محمد شطح ومحمد الشعار،
ومَن سيتبعهما.
|