مقالات
سابقة للكاتبة
راغدة درغام
(ولدت في بيروت سنة 1953) صحفية و محللة سياسية لبنانية-أمريكية تعمل مديرة
مكتب جريدة الحياة في نيويورك في مقر هيئة الأمم المتحدة منذ 1989
المواقف من الأزمة السورية تعيد رسم خريطة
المنطقة
راغدة درغام
الجمعة ٢٩ مارس ٢٠١٣
عناوين وصف القمة العربية الـ24 التي عقدت في الدوحة هذا الأسبوع تعكس
الانقسام العميق حول ما يحدث في سورية وحول دور قطر في رسم نهج التغيير في
المنطقة العربية. فالدوحة تسلمت رئاسة القمة لسنة قد تكون من أهم السنوات
في المرحلة الانتقالية. وقطر ما زالت اللغز الذي يحاول حله أو استفهامه
ربما كل عربي وغير عربي، باستثناءات قليلة. أمام قطر سنة امتحان عسير قد لا
يقيها من مطباته أسلوبها الجريء الذي يتعمّد الاستفزاز والألغاز. إنما ما
بين اللغز والإرث مسافة وعلاقة مصيرية ليس فقط لدولة قطر وقيادتها غير
التقليدية وإنما أيضاً لمنطقة تمر في مرحلة هشة ومصيرية على السواء. لذلك،
من الحكمة أن تتخذ القيادة القطرية قرارات تخلو من نكهة البدعة وأن تحاول
التفاهم مع الشعوب العربية على أسس الوضوح. فاللغز ليس سياسة بمستوى جدية
الحدث الضخم الذي يهز المنطقة منذ أن أتى التغيير إليها باسم «الربيع
العربي». والغموض – بناّءً كان أو مدمراً – ليس سياسة يتقبلها الناس وهم
على أرجوحة التساؤلات والقلق. فإذا كان هدف النهج الجديد هو حقاً احترام
حقوق الناس، كما تقول القيادة القطرية، أن أولى محطاته يجب أن تكون في بذل
الجهد الصادق لتبديد الشكوك في الغايات القطرية والعمل الحقيقي للتعرف إلى
أسباب انعدام الثقة بالأجندة القطرية، لمعالجتها. هذا إذا كانت الدوحة
راغبة حقاً في توظيف رئاستها لفتح صفحة جديدة تطوي تكتيك الغموض للقفز على
أوتار المعادلات الإقليمية والدولية لغايات تخدمها. وقد لا ترغب. فإذا
ارتأت الدوحة أن لا داعي لشرح ما في ذهنها طالما تفعل ما تشاء، لن تتخلى عن
أسلوبها المعهود. وسيكون ذلك قراراً محزناً.
قمة الدوحة أثارت عناوين متضاربة فوُصفت بأنها قمة «تشريع الفوضى
السورية... والعربية» و «سلب مقعد دمشق». ووصفت أيضاً بأنها قمة «احتضان
الثورة السورية وعلمها» و «تشريع تسليح المعارضة السورية» وقمة «مقعد
دمشق». أحد العناوين وصفها بأنها جزء من «استبدال القومية العربية بالإسلام
السياسي»، فيما اعتبرها عنوان آخر قمة «إقرار حق الدول في تسليح المعارضة».
لا خطأ في أن يكون هدف القمة العربية إعادة إعمار سورية بعد كل هذا الخراب
المريع. ويستحسن كثيراً أن يتم تنفيذ إنشاء صندوق للقدس ببليون دولار. ليس
عيباً أن يُستخدم النفوذ المالي ضد تسلط الحزب الواحد وإطلاق الحكم الراشد.
ومن البديهي أن تحتاج قوى المعارضة إلى دعم مالي إذا كان القرار السياسي
تسليحها. بل إن الحاجة حقاً ماسة لضخ المال في مداواة جرح ووجع اللاجئين
والمشردين السوريين وهم ربع سكان سورية.
واضح أن القرار والنفوذ في رسم خريطة المنطقة العربية بات الآن في أيدي دول
في مجلس التعاون الخليجي. قطر بالذات تمتلك الآن رئاسة القمة العربية مما
يعطيها شرعية النفوذ، وهي تملك الأموال الطائلة مما يعطيها أدوات النفوذ،
وهي تملك الجرأة غير التقليدية مما يوفر لها الركن الثالث البالغ الأهمية
في أركان النفوذ والإقدام على القرار.
ما تملكه أيضاً هو إرث الانقسام العميق في أوساط الدول العربية وما يترتب
على ذلك الانقسام من خصوم وأعداء. فالدول التي عارضت أو تحفظت على إعطاء
مقعد سورية إلى المعارضة في قمة الدوحة دول غاضبة رضخت. فالعراق مخنوق في
تمزقه الداخلي، والجزائر ملهية في أولوياتها الداخلية – وهاتان أقوى الدول
المتحفظة وزناً ونفوذاً، تقليدياً.
جامعة الدول العربية أيضاً تقع في بطن الانقسام إذ باتت في رأي كثير من
أعضائها الغاضبين موضع استفراد دول مجلس التعاون. في وسع أمين عام الجامعة
نبيل العربي أن يُشهر في وجه منتقديه أن التطور النوعي في مواقف الجامعة في
السنتين الماضيتين هو الذي أخرجها من قمقم إملاء الأنظمة وجعلها تتسم
بالجرأة والإقدام لا سيما من أجل رفض التفرج فقط عندما تسفك أنظمة الدول
دماء الناس في ليبيا أو في سورية على السواء. دور الجامعة سيكون تحت المجهر
مكبَّراً بأضعاف أثناء السنة المقبلة بسبب رئاسة قطر للقمة، ولذلك يجب أن
تتحلى بالشفافية والحكمة والإصرار على رفض الانقياد وراء أسلوب اللغز
والغموض. فإذا دعمت الجامعة للتوجه إلى الأمم المتحدة لدعم حصول «الائتلاف
الوطني» السوري على مقعد دمشق في الجمعية العامة للأمم المتحدة، على
الجامعة أن تكف عن التذمر مما تفعله أو لا تفعله الأسرة الدولية أو مجلس
الأمن، وأن تستبدل اللوم بإستراتيجية الإقدام.
مشهد الوفد السوري في مقعد سورية في قمة الدوحة برئاسة معاذ الخطيب، وأمامه
علم الثورة السورية، بجانبه ووراءه «موزاييك» من الشعب السوري بتنوع طوائفه
وأثنياته، وإلى يساره امرأة، كان مشهداً نوعياً معنوياً وسياسياً وكان
أيضاً فريداً في مسيرة الثورات العربية التي انطلقت مع ولادة هذا العقد.
فمعظم صور القيادات التي ولّدتها تلك الثورات تكاد تخلو من التنوع
وبالتأكيد من النساء. بل إن صبغة الإسلامويين على الحكم وعزمهم على احتكار
السلطة والاستفراد بصنع القرار جعل من الانتخابات سلعة رخيصة لإلقاء القبض
على الديموقراطية من أجل تحريفها وتشويهها لتخدم غاياتهم الأصلية – امتلاك
السلطة وفرض الحكم باسم الدين. قطر متهمة بأنها هي التي تقوم برعاية صعود
الإسلامويين إلى السلطة وبالذات «الإخوان المسلمين»، ولذلك هناك انعدام ثقة
بقطر في صفوف الحداثيين والمدنيين والعلمانيين في تونس ومصر وليبيا وسورية
وأينما كان. رئيس الوزراء ووزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم حاول أثناء
مؤتمره الصحافي بعد قمة الدوحة أن يطمئن بأن بلاده تدعم الجيش المصري وليس
تسلط «الإخوان» في خطوة لافتة لكن السياسة القطرية برمتها تحتاج إلى الشرح،
وإلا فإنها ستبقى موضع تشكيك وثقة ضائعة مهما لعبت من أدوار مهمة في إطاحة
أنظمة الاستبداد.
ففي كل موضوع، هناك لغز قطري. في الموضوع الفلسطيني، مثلاً، تستخدم قطر
نفوذها ومالها تارة لترقية «حماس» وتوجيه صفعة إلى السلطة الفلسطينية،
وتارة لتدفع إلى مصالحة فلسطينية – فلسطينية في مصر، وكذلك باتخاذ قمة
الدوحة قرار إرسال وفد إلى واشنطن للدفع بالعملية التفاوضية مع إسرائيل
وإحياء «المبادرة العربية» في العاصمة الأميركية.
في موضوع إيران أيضاً هناك تضارب وبعض الالتباس الذي يتطلب الإيضاح.
فللدوحة علاقة عميقة مع طهران منذ سنوات قبل المسألة السورية. قنوات
الاتصال بين قطر والجمهورية الإسلامية الإيرانية تبقى مفتوحة والدوحة ترى
أن النظام الأمني في منطقة الخليج يتطلب تواجد طهران ضمنه.
وهناك توافق سعودي – قطري كامل في الموضوع السوري يصب بالتأكيد في المحطة
الإيرانية في نهاية المطاف نظراً للعلاقة الإيرانية العضوية مع النظام
السوري ومع «حزب الله». فأولوية السعودية وقطر الآن هي تغيير النظام في
دمشق. وليس صدفة أن قمة «المقعد» في الدوحة التي صفعت النظام في دمشق
رافقها الكشف في الرياض عن قيام السلطات السعودية بالقبض على خلية تجسس
تتورط فيها إيران.
وسواء رفضت هذا القرار أو استسلمت أمامه، فإيران أمام قرار خليجي، سعودي –
قطري بالذات، بأن لا تراجع عن الإصرار على تغيير النظام السوري. قد تود
الدوحة تطويق المغامرة الإيرانية في سورية عبر الحوار، شأنها شأن واشنطن،
لكنها لن تحيد عن عزمها على عدم التعايش مع ما تريده طهران وهو بقاء نظام
بشار الأسد في السلطة. ماذا ستفعل طهران؟ هوذا السؤال الأكبر.
فبينما تخضع إيران لعقوبات اقتصادية لن تتمكن روسيا من التعويض عنها في
نهاية المطاف، تطفو الجرأة الخليجية مرتبطة بالقدرة على ضخ المال. وهذا
يعطي قوة غير مسبوقة للخليج ستنعكس تماماً حيث معركته مع إيران، في الخاصرة
السورية. فالهدف واضح عند دول الخليج الآن، وهو تغيير خريطة المنطقة من
خلال تغيير خريطة النظام في سورية.
ما هي الاستراتيجية الخليجية نحو سورية في شقها اللبناني والأردني
والعراقي؟ الرد على هذا السؤال فيه طيّات عديدة، منها ما هو جدي ومنها ما
يفتقد حقاً الجدية الضرورية.
قد ترغب دول الخليج أن تقرّب الأردن منها بصورة جذرية لكنها ما زالت تتبنى
الأسلوب المعهود القائم على تقطير المعونات بدلاً من الالتزام باستراتيجية
تضع الشركاء في مرتبة واحدة.
دول الخليج تود أن تفك لبنان عن الهيمنة السورية – الإيرانية، لكنها تبدو
هائمة بين التوعد والوعود. ليس لدى هذه الدول وضوح – أو تنفيذ – لتعهدات
معالجة أزمة اللاجئين السوريين في لبنان والذين هم في أشد الحاجة إلى
المعونة. هناك وعود عائمة، والوعود لا تشكل سياسة جدية إن بقيت بلا تنفيذ.
المعركة على سورية بين دول في مجلس التعاون الخليجي وبين إيران يجب ألاّ
تكون عشوائية. فالحديث المطلوب ليس بين الولايات المتحدة وإيران بقدر ما هو
بين دول الخليج وإيران. هناك قنوات اتصال بين الدوحة وطهران يجب أن يتم
تفعيلها من أجل إقامة حديث ما، هدفه تحييد لبنان حقاً عن السقوط في الهاوية
السورية.
لعل هذا الحديث يؤدي إلى كلام المصارحة بأن إيران الآن تملك القرار السياسي
في بغداد، بإقرار وقبول أميركي به، إذا وافقت طهران على فك قبضتها عن
سورية. فواشنطن ليست غائبة كلياً عما يحدث في منطقة الشرق الأوسط مهما بدت
تتأرجح على القرارات. الرئيس باراك أوباما رعى المصالحة التركية –
الإسرائيلية بتزامن مع نقلة نوعية في المصالحة التركية – الكردية. وزير
خارجيته جون كيري قفز بزيارة مهمة إلى بغداد لإبلاغ رئيس الحكومة نوري
المالكي بأن مباركة بقائه في السلطة مرتبطة بإقفاله حدود العراق مع سورية
بدلاً من تسهيل الخروقات الإيرانية لأجواء العراق لإيصال إمدادات عسكرية
إلى النظام في دمشق.
إنه التموضع مجدداً، إقليمياًَ ودولياً، من أجل رسم خريطة منطقة الشرق
الأوسط الجديد. كفة الميزان أتت لتسليط الأضواء على التحرك الأميركي
والخليجي والتركي، لكن زعماء «البركس» بدورهم اجتمعوا وسط استقطاب يبدو أن
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يكن جداً ناجحاً فيه، أقله الآن، وحتى
إشعار آخر.
|