الكلدان الآشوريون السريان شعب واحد  يسمى بالشعب الآرامي

 

اقرأ المزيد...

ميشال عون من الأسد الأب الى الأسد الإبن - 1

"نابليون" حارة حريك.. قائداً للجيش

الثلاثاء 18 تشرين الأول 2011

"ميشال عون من الاسد الأب الى الأسد الابن"، ملف جديد يسلّط الضوء على خفايا مرحلة غير عادية في تاريخ لبنان الحديث، وسلوك غير عادي لشخص امتهن السياسة من باب العسكر، فحارب الجميع من أجل نفسه ولا شيء غيرها.
صال وجال في ساحات التحالفات الداخلية والخارجية، أكثر منها في ساحات القتال، ولم يربح أياً من "معارك" الساحتين، لكن الجنرال ظلّ ثابتاً في حلمه، لا يتزحزح، لا بالبزّة العسكرية ولا المدنية. حنين قاتلٌ إلى "الكرسي الرئاسية"، وأحلام نهارية ومسائية جعلت حياة الجنرال ليلاً طويلاً طويلاً طويلا.
لم يجد حرجاً في نقل بندقيته من كتف الى آخر. راهن بداية على الرئيس السوري حافظ الأسد، ثم على الأميركيين، وعاد الى الأسد نفسه، قبل أن يلجأ الى الرئيس الفلسطيني "أبو عمّار"، وبعده الى الرئيس العراقي صدام حسين ومعهما طبعاً فرنسا، ليأوي أخيراً الى الرئيس بشار الأسد، حيث لا يزال يتموضع حتى الآن ومن أجل الهدف نفسه والحلم نفسه.. كرسي بعبدا.
هذه المحطات واكبها اللبنانيون من بُعد ومن قرب، لكن بقيت وراءها وفي كواليسها وقائع لم يُكشف النقاب عنها حتى اليوم، ولم يكن ليحصل ذلك لولا انقلاب بعض المقربين من الجنرال عليه بعد أن انقلب على نفسه، فكشف بعضهم باسمه الصريح، لـ"المستقبل" أسراراً غير معروفة، فيما فضّل آخرون عدم ذكر أسمائهم، لتكون هذه الشهادات في متناول اللبنانيين.
هذا الملف الذي تنشره "المستقبل" على حلقات، يتضمن روايات من شهود سابقين وآخرين مخضرمين، عن أحداث ووقائع تعكس عطش الجنرال المستديم لكرسي بعبدا التي هنأ بها لعام ونيّف من دون أن يهنأ بلقبها الأصلي، فلم ينل أكثر من رئاسة حكومة انتقالية، دفعته الى تبني سياسات "انتقالية" علّه ينتقل الى الكرسي الحلم.
في الحلقة الأولى تكشف "المستقبل" النّقاب عن مرحلة غير معروفة من حياة ميشال عون، في تقديم للزميل وسام سعادة يستند فيه الى شهادات جيران للجنرال في مسقط رأسه في حارة حريك، واكبوه في مراحل طفولته وشبابه، فنبشوا من ذاكرتهم صوراً لا تُنسى عن الجنرال الذي كان لا يتردّد في الوقوف على برميل صدئ ويصرخ بنبرة مصمّمة "أنا نابليون بونابرت"، قبل أن يعود الى سقي حارة حريك نفسها، لكن من باب "التفاهم" مع سيّد الممانعة السيد حسن نصرالله.
وفي الحلقة أيضاً وقائع غير معروفة عن مرحلة تعيين العقيد ميشال عون قائداً للجيش بضوء أخضر سوري بعد أن تبلغ رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل، الذي كان اقترح عون لهذا المنصب، اعتراض حلفاء القيادة السورية على هذا الاقتراح. إلا أن رئيس الحكومة آنذاك رشيد كرامي الذي استخدم حق النقض في البداية، عاد فوافق بعد أن تلقى تأييداً سورياً، وذلك بعد زيارتين سريتين قام بهما عون الى دمشق وأخريين علنيتين بعد التعيين.
هذه المحطة الأولى فتحت الباب أمام الجنرال ليبدأ رحلة "الألف ميل" الرئاسية عبر اتصالات غير منظورة قام بها وسطاء بينه وبين السوريين، كان أبرزهم في ذلك الحين النائبان السابقان البير منصور ومحسن دلول والناشطان السياسيان فايز قزي ورياض رعد.
وساطات ورسائل وإيحاءات ظنّ الجنرال خلالها أنها قرّبت المسافة بينه وبين النظام السوري بما يقرّب المسافة بينه وبين قصر بعبدا، قبل ان يتبين أنه كان مجرد "ورقة" في يد النظام الذي استخدمها ضد اللبنانيين الآخرين.

غداً
تطلبون
منّي تأمين
انتخاب غيري؟!

حلفاء دمشق وافقوا عليه بعد اتصالات سرّية أجراها مع السوريين
"نابليون" حارة حريك.. قائداً للجيش

الثلاثاء 18 تشرين الأول 2011

وسام سعادة

كانَ يفشل في جمع الصبية من حوله بين البيوت المتناثرة وبساتين الليمون في "سقي حارة حريك"، لكنه ما كان يتردّد في الوقوف على برميل صدئ والكشف بنبرة مصمّمة: "أنا نابليون بونابرت". كان يؤمن منذ نعومة أظفاره أنّه "المنقذ"، وقبل أن يعرف ما الذي يُريد إنقاذه ومَنْ ومِمَّنْ. كان منقذاً وحسب، وكان طفلاً منعزلاً داخل البيئة التي يعيش فيها. قلّما لعب مع سواه. كثيراً ما كان يُلاعِب نفسه.
هذه العزلة "النابليونية" صنعت إذاً عبوسه وتجهّمه وعصبيّته. وهذه الخصال معطوفة على إيمانه اللامحدود بأنّه "نابليون" وبأنّه "المنقذ" ستصنعه لاحقاً كظاهرة كاريزماتية استثنائية في تاريخ لبنان الحديث. ميشال عون. الذين رافقوه بعد ذلك بعقود طويلة ومريرة إلى المنفى الباريسيّ يستذكرون جيّداً أنّه وقف ذات مرة أمام تمثال للإمبراطور نابليون الأوّل وطلب منهم التفرّس في قسمات وجهه وقسمات وجهه هو. "بربّكم قال، ألا
يشبهني؟".
نترك لعلماء نفس القادة والجماهير التدقيق في هذه الطرائف والمفارقات، وكيف استطاع الطفل المنعزل عن أترابه في "سقي حارة حريك" أن ينتج، وبسبب من عزلته نفسها، العناصر الأولى لشعبيّته كقائد جيش يتولّى أمر الحكومة المؤقتة نهاية الثمانينات من القرن الماضي، ويخوض حروباً خاسرة، ومع ذلك لا تنقص هذه الشعبية بل تزيد هزيمة تلو هزيمة، لا بل تحافظ هذه الشعبية على نفسها حتى بعد صبيحة الفرار من القصر الجمهوريّ في 13 تشرين، واللجوء إلى السفارة الفرنسية، ثم نفيه القسريّ إلى باريس.
اللافت أكثر أنّ الطفل الذي كان قادراً على الوقوف في الـ"سقي" على برميل وتوجيه الكلام إلى الجماهير غير الموجودة على أنّه "نابليون" إنّما استطاع أن يعبّد الطريق لظاهرة كاريزماتية تؤمن بأنّها تستطيع أن تذهب في السياسة إلى أي مكان تريد وتحافظ على شعبيّتها، في الحرب أو في السلم، في القصر أم في المنفى، وعند العودة إلى لبنان أو عند العودة إلى "حارة حريك" التي لا تشبه بساتين الليمون التي ترعرع فيها "نابليون لبنان"، إنّما هي "حارة حريك" من نوع جديد.
إلى حارة حريك الجديدة هذه، حارة حريك "حزب الله" و"شرطة الإنضباط" و"جهاد البناء" و"وثيقة التفاهم" عاد ميشال عون.
شتّان هنا ما بين "سفرة النسر" التي أعادت الإمبراطور نابليون لـ"مئة يوم" إلى السلطة بين منفاه الأوّل (في جزيرة ألب) ومنفاه الثاني والنهائيّ (في جزيرة سانت هيلين) وبين عودة "نابليون لبنان" إلى بلده متطوّعاً في المعسكر السوريّ- الإيرانيّ الذي خاصمه مطوّلاً، لقاء سلطة لم ينل مركزها، لكنه نال ما يكفي من عطاياها.
في "حارة حريك الجديدة"، لم يعد الطفل الهرم وحيداً. صار له أصدقاء. وصار أصدقاؤه يردّدون على طريقتهم، كلّ على مستواه: أنا نابليون، أنا نابليون. بعد "وثيقة التفاهم" تحرّر ميشال عون من جزء أساسي من "عقدة نابليون"، عقدة الطفل المعزول عن بيئته الذي يحاول أن يُفهم هذه البيئة بأنّه المنقذ المبعوث لا نعرف من أين. فالبيئة صار لها مضمون آخر ووجه آخر. وهذه البيئة الجديدة قرّرت ألا تتركه وحيداً. عبوسه وعصبيّته تجاه البيئات الأخرى ما عاد يترافق إلا مع كلّ ودّ مع هذه البيئة الجديدة. هل كان ميشال عون الطفل ينعزل عن بيئته وقتها في "سقي حارة حريك" طمعاً في مخاطبة القادمين الجدد الذين كانوا لم يأتوا بعد، ولم يولد أكثرهم بعد؟.
تبدّلت حارة حريك كثيراً. بل صارت شيئاً آخر تماماً. أمّا ميشال عون فلم يتبدّل. ما زال هو هو. حكايته مع "حزب الله" تشبه في بعض من طيّاتها حكاية الجنرال بونابرت مع المشايخ الدينيين في مصر أيّام الحملة الفرنسية. بونابرت "الأصليّ" حاول أيضاً إبرامَ "وثيقة تفاهم" مع هؤلاء المشايخ، وزار بهذا الصدد الجامع الأزهر، وزعم أنّه يعتنق الدين الحنيف، وسئل عمّا إذا كان أجرى لنفسه عملية ختان، وسألهم هو إن كان الختان سيقتصر عليه أم سيشمل طاقم الحملة الفرنسية ككل؟ لم يبرم التفاهم يومها. لكن الأساس فيه أن بونابرت كان الطرف المسلّح. كان يمثّل معادلة السلاح.
ميشال عون هو قبل كل شيء آخر "نابليون سقي حارة حريك القديمة غير المعترف فيه من قبل أترابه في أيّام الطفولة". وبصفته تلك قَبِلَ كل شيء آخر، وقّّع التفاهم مع "حزب الله"، أي مع "السلطة الثيوقراطية في حارة حريك الجديدة". ونجح التفاهم هنا، لأنّ الحزب الثيوقراطيّ المتقوّي ببعض سمات الفاشية يحتكر لنفسه لعبة السلاح، فيما ميشال عون يحتكر ذكرى انتصارات عسكرية في حروب خاضها كثيراً ولم يفز في أي واحدة منها يوماً.
وأغلب الظنّ أنّه عند إبرام "التفاهم"، لم يُسأل العماد عون أسئلة ماورائية أساسية، بل تُرِك على دينه. بل أكثر من ذلك قام يبرّر التفاهم بين الجماعة العونية بالقول إنّه تفاهم يضمن للمسيحيين الحماية من جيل إلى جيل. أمّا هو فتطوّع من نفسه ذات يوم للخلط بين العقائد الدينية، فراح يشبّه فصح المسيحيين بمناسك عاشوراء، الأمر الذي استدعى وقتها تدخّلاً غاضباً من راعي أبرشية جبيل المارونية آنذاك المطران بشارة الراعي.
نحن أمام حالة شخص في بلد صغير ظلّ مسكوناً منذ نعومة أظفاره وإلى اليوم بـ"عقدة نابليون" بما في ذلك لجوؤه إلى تشبيه وجهه وحجمه بوجه نابليون بونابرت وحجمه. فهل يجوز بعد ذلك أن يسأل المرء ما سبَب حبّ ميشال عون لجبران باسيل؟ إنّه بلا أدنى شك يجد في باسيل نابليوناً جديداً.
في القرن التاسع عشر، قارن كارل ماركس بين نابليون الأوّل وبين ابن اخته لويس بونابرت الذي سيصبح نابليون الثالث. قال إنّ الشخصيات تتكرّر مرّتين، المرّة الأولى كمأساة، والمرة الثانية كمسخرة. لا نعلم ما هو موقع هذه الإستعارة من الإعراب هنا؟!.

] قزّي: السوريون استخدموا عون "فزّاعة" ضدّ المسيحيين.. والمسلمين
]ألبير منصور شرح لأبو جمال تصوّر عون للعلاقة بسوريا من دون علمه

لم يُعرف الكثير عن حياة ميشال عون العسكرية سوى روايات قليلة يتناقلها بعض رفاقه في السلاح، أو رفاق دورته، كما يقال باللغة العسكرية، أو بعض الانطباعات التي تُجمع على اتهامه بـ"الجبن"، أو خوفه الملحوظ خلال المعارك العسكرية الذي كان يضطّره الى الاحتماء بأقرب ملجأ.. من أي نوع كان.
لم تكن ميوله السياسية واضحة في البدايات، إما بسبب ندرتها، أو بفعل تقّلبها كما صارت عليه الحال مع انتقاله الى الحياة السياسية.
لكن من أيلول 1980 حيث أعدّ مع مستشار بشير الجميل المفكّر انطوان نجم مذكرة بعنوان "دراسة حول وصول بشير الى الحكم" تحسّباً لحصول فراغ في السلطة عند نهاية ولاية الرئيس الياس سركيس.. الى أيلول 1988 حيث ملأ هو نفسه الفراغ مع انتهاء عهد الرئيس أمين الجميل، كانت المسافة كافية لكي تتفتّح شهوة الجنرال الى السلطة، ولكي يُعدّ مذكرات ورسائل في كل الاتجاهات، من أجل أن يتولى هو نفسه السلطة.
فبعد أن كان يدور حصراً في فلك بشير الجميل، طمعاً بقيادة الجيش، ويشارك مع آخرين في حلقاته الضيّقة تحت اسم "صخر" أو "رعد" أو "جبرايل". ويطمح الى "اتفاق فوري مع إسرائيل.. وإقامة معاهدة دفاع مشتركة بينها وبين لبنان"، كما ورد في المذكرة التي أعدها مع نجم (من كتاب آلان مينارغ "أسرار الحرب اللبنانية")، لم يجد الجنرال حرجاً في أن يدور في فلك آخر على طرف نقيض مع الأول، قبيل تعيينه قائداً للجيش في 1984 وبعده.
ففي ظلّ تبدل الظروف السياسية الداخلية في ذلك العام، مع انتخاب النائب حسين الحسيني رئيساً لمجلس النواب مكان الرئيس كامل الأسعد، الذي توّج تنامي الدور السوري في لبنان إثر إسقاط اتفاق 17 أيار، كان لا بد أن تتبدّل حسابات الجنرال مع الظروف ليفتح قنوات مع النظام السوري تزيل "الفيتو" من أمامه لـ"يغنم" منصب قيادة الجيش.
ميشال عون الآتي من خلفية "بشيرية" (رغم أن بشير لم يكن كثير الاعجاب به كما يقول أنطوان نجم)، والمطعّمة لاحقاً باعجاب غير مسبوق من الرئيس كميل شمعون، والمدعّمة استطراداً بترشيح من الرئيس أمين الجميل لقيادة الجيش (ولرئاسة الحكومة لاحقاً)، لم يجد صعوبة في أن يعطي أخصامه أكثر مما أعطاه مريدوه، فبادر ومن دون علم من رشحوه الى فتح خط غير منظور مع من رفضوه، الى أن سُجّل إجماع مفاجئ على تعيينه قائداً للجيش في عزّ الانقسام الداخلي في ذلك الحين.
]قائد.. بموافقة سورية
"أرجو أن يعتبرني القائد الكبير حافظ الأسد جندياً صغيراً في جيشه".
قول مأثور لميشال عون، جاء في رسالة خطية حملها مبعوثه إلى الأسد العقيد فؤاد الأشقر، إن دّل على شيء، إنما على "زيف" ما برع في ادعائه بأنه جنرال النضال ضد "الاحتلال السوري"، بل يكشف أنه منذ نعومة أظافره، في العسكر وفي السياسة، كان النظام السوري في قلب رهاناته من أجل الوصول إلى قصر بعبدا من دون أن يكون هو في صلب حسابات ذاك النظام.
كيف لا، وقصة الجنرال مع السوريين بدأت منذ 23 حزيران 1984، موعد تعيينه قائداً للجيش. لم تكن رتبته العسكرية (عقيد) تؤهّله لتولّي المنصب، لكن "السوري" وافق على تمرير هذا التعيين بعد اتصالات بعيدة عن الأضواء مع القائد العتيد.
يكشف رئيس حركة "التغيير" إيلي محفوض أن "نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام الذي كان يشارك في خلوات بكفيا للحوار، أبلغ عشية جلسة مجلس الوزراء التي كانت مخصّصة لتعيين قائد جديد للجيش، حلفاء النظام السوري في لبنان، الرئيس رشيد كرامي (الذي كان معارضاً في البداية) والوزيرين نبيه بري ووليد جنبلاط، عدم ممانعة دمشق لتعيين عون.
إذاً، لم يكن تعيين الجنرال قائداً للجيش كما يخلص الناشط السياسي الياس الزغبي "باقتراح من الرئيس كميل شمعون، وبمباركة من الرئيس حسين الحسيني، وبعدم رفض من الرئيسين رشيد كرامي وسليم الحص، بل كان بأمر عمليات سوري، تعزّز بزيارتين علنيتين قام بهما عون الى دمشق وأخريين سريتين، علماً أن الرئيس شمعون كان يعتبر عون ضابطاً شجاعاً، على أساس أن خلفيته السياسية كانت قريبة من العميد ريمون اده، لكن الجنرال كان يغش الجميع".
في المقابل، يؤكد متابعون أن الرئيس الجميّل هو من اقترح عون لقيادة الجيش، وأن الرئيس رشيد كرامي اعترض في البداية، لكنه عاد ووافق، ما يفسر أن "الضوء السوري" قد ظهر بعد حين للقبول بعون قائداً للجيش.
إذاً، جاء عون إلى قيادة الجيش في العام 1984 بموافقة سورية مباشرة تمت ترجمتها بحسب ما يروي الزغبي والناشط السياسي فايز قزي الذي عاصر تلك المرحلة "بزيارة عون إلى سوريا مرتين، قبل أن ينشر الجيش اللبناني على حدود ساحل إقليم الخروب، وبالذات في بلدة الجية، كي لا تسقط المنطقة بيد الحزب التقدمي الاشتراكي الذي كان يطوّق الإقليم، الذي كان تحت سيطرة القوات اللبنانية".
خوف قزي على ساحل الإقليم حيث "أهله وجماعته"، وحرصه على حمايتهم، قاده إلى التعرّف الى عون، ولكن بـ"التقسيط"، ومن خلال "السوري"، الذي لم يمانع قزي الاتصال به لتبديد مخاوفه، ولو كان الثمن قطع علاقته بالعراق حيث كان يقيم قبل ذهابه إلى فرنسا. فكان جواز عبور قزي إلى دمشق، أحد المشايخ العلويين الكبار الذي كان صديقاً له في باريس، وهو العقيد محمد معروف، الذي سارع إلى الاتصال بصديقه رئيس الأركان السوري اللواء حكمت الشهابي في أوائل نيسان 1985، ليبلغه رسالة قزي ومطلبه، فرد الشهابي بالقول: "ليأتِ فايز وندرس معه كيف يمكن أن نمنع وليد جنبلاط من اجتياح ساحل الإقليم".
]اتفق مع السوريين ثم خدعوه
لكن قزي لم ينل ما كان يريد نتيجة "التصارع على الأدوار" الذي يراه "سبباً لسقوط الإقليم في 28 نيسان 1985" قبل أن يتمكن من زيارة دمشق، إذ يشير إلى أنه تحدث إلى الأباتي بولس قزي ورئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل "فكان أن طلب مني الجميل التريث لأنه يبحث حماية ساحل الإقليم مع الرئيس حافظ الأسد شخصياً، بينما أنا ذاهب إلى دمشق لمناقشة الملف مع نائبه عبدالحليم خدام وحكمت الشهابي، وبالتالي فهو يعتبر دوره أهم".
لكن سقوط ساحل الإقليم لم يحل دون زيارة قزي إلى دمشق التي تمت في وقت لاحق، حيث التقى خلالها خدام والشهابي. حظي هناك باستقبال حار: "قالوا لي نريد أن نساعدك. سمعت مجاملات من خدام مفادها أنني لو أتيت من قبل لكنا (أي السوريين) منعنا تهجير الإقليم، ولكن سنساعدك رغم أن هناك مشكلة، هي أنه إذا أعدنا المهجرين الى ديارهم، فمن سيحميهم؟ نحن لا نستطيع حمايتهم، وعلى الجيش اللبناني أن يحميهم، عليك إذن، أن تقابل عون، وتعرض عليه مساعدتك".
تلقّف قزي الرسالة السورية وعاد إلى بيروت وعينه على لقاء عون، فكان أن التقى "صدفة" نائب الشوف السابق سمير عزيز عون، فطلب منه أن يصله بعون "لأنني أريد أن أراه وأعرف ما قصته مع السوريين"، فكان له ما أراد "وذهبنا الى ميشال عون، فسألته ما قصتك مع السوريين، فروى لي كيف اتفق مع القيادة السورية عبر خدام والشهابي على إرسال الجيش اللبناني إلى الجية، شرط أن لا يُسمح لوليد جنبلاط بالتقدّم في اتجاه الساحل، وأن يتراجع إلى حدود غريفة". وينقل عن عون قوله: "لكن حين بدأت الأحداث يوم السبت في 28 نيسان اتصلت بالشام، لا الشهابي ولا خدام كانا على الخط، فالجماعة كذبوا عليّ وخدعوني ونالوا من مجموعة من عناصري، فاعتبرت ذلك عملاً لا أخلاقياً، وقطعت علاقتي بهم".
ويقول قزي: "كان عون غاضباً، فرحت أهدّئه باعتبار أن هناك مؤامرة على البلد إلى أن اقتنع، بعد لقاءات، بمعاودة الاتصال بالسوريين الذين بدأوا بدغدغة طموحاته". ويضيف: "كان يهمّني موضوع المهجرين، فقلت للسوريين إنهم إذا أرادوا هذا البلد فعليهم أن يعمدوا إلى إيلاء أهمية لعون والتباحث معه، وهذا ليس من اختصاصي، لأنني أتيت من أجل موضوع المهجرين، وميشال عون هو فرع بسيط في ملف المهجرين". لكن قزي يستدرك أن "السوريين كانوا يعتبرون العكس، أي أن ملف المهجرين هو الفرع، فيما العلاقة بعون هي الأصل".
من هنا، عادت المياه إلى مجاريها بين عون والقيادة السورية التي يرى قزي "أن هدفها كان استغلال العلاقة بالجنرال لمصلحة دورها في لبنان. فكان السوريون يستخدمونه كفزاعة ضد الآخرين، مرة ضد أمين الجميل، ومرة ضد "القوات اللبنانية"، ومرات ضد الأطراف المسلمين كما ثبت في ما بعد"، ناهيك عن طلب حكمت الشهابي من عون القيام بعمل عسكري لإنقاذ ايلي حبيقة ورفاقه من "المبنى الأبيض" في الكرنتينا في 15 كانون الثاني 1986، إضافة إلى الكلام عن "دور ما" للجنرال في وضع مسودة "الاتفاق الثلاثي" (لا سيما منه الجانب العسكري الاستراتيجي).
إثر ذلك، قرّر قزي الاكتفاء بملف المهجرين، فرأى ضرورة تسليم بندقيته إلى رجل آخر يكون "همزة وصل" بين عون والسوريين، فوقع خياره على النائب السابق ألبير منصور الذي "يفهم في الدفاع والعسكر": عندما أبلغت أبو جمال (عبد الحليم خدام) بقراري، قال: من؟ قلت: ألبير منصور. فكان ردّه "هذا شيوعي وكذا وكذا". فقلت: "المهم أنه رئيس لجنة الدفاع في المجلس النيابي ونائب. فاقتنع وقال: لا تقل له إنني أعرفه، فليأتِ معك وسأستقبله".
]"فليكتب ما يريد خطياً"
أبلغ قزي منصور بمسعاه، فوافق ولم تكن لديه مشكلة: "ذهبنا معاً لزيارة أبو جمال، وخلال الحديث سألنا عن تصوّر عون للعلاقة بسوريا. لم يكن عندي صورة واضحة للعلاقة ولم أكن قد بحثت الموضوع مع عون، فشعر منصور أن لا جواب لدي، خصوصاً أن السؤال كان موجّهاً إليّ، فبادر إلى القول: يا أبو جمال القصة بسيطة وواضحة، نحن بحثنا الموضوع مع العماد عون وهو مستعدّ لأن يتعامل مع الرئيس حافظ الأسد كما تعامل الرئيس فؤاد شهاب مع الرئيس جمال عبدالناصر، أي في الشؤون الخارجية والشؤون العربية نحن معكم 100% ونسير وراءكم، أما في الشؤون اللبنانية الداخلية فنتشارك في الحكم. قال أبو جمال "طيّب، لكن فليكتب عون هذه الأمور خطياً".
كان لقاء قزي منصور مع خدام في العام 1987. بعد خروجهما، عاتب قزي منصور لأنه تحدّث بالنيابة عن عون حول تصوّره للعلاقة بسوريا "خصوصاً أننا لم نبحث الأمر معه"، فأجاب منصور كما يضيف قزي: "لا تهتّم، السياسة كلها كذب". قلت: كيف يعني؟ قال: "فليقبل السوريون الصيغة التي عرضتها عليهم وأنا كفيل بإقناع ميشال عون". ثم التقينا بالجنرال وسردنا له ما جرى، وبعد 4 أو 5 أيام عاد منصور وذهب الى دمشق من دوني مع الوزير السابق محسن دلول، لينقل جواب عون الى أبو جمال، ولم يبلغني بنتائج هذه الزيارة، وبالتالي لم أتأكد مما إذا كان منصور حمل معه ورقة خطية من الجنرال أم لا، ولكن قد يكون حمل رسالة شفهية".
هذه الوقائع عزّزتها الحركة الواسعة لموفدي عون الى دمشق عامي 1987 و1988 (وأبرزهم منصور، قزي، دلول، رياض رعد، والصحافي عبد الهادي محفوظ) من أجل تعزيز العلاقة وتطبيقاتها العملية وصولاً إلى وعد الجنرال بكرسي بعبدا التي ناور السوريون بشأنها طويلاً.. وما زالوا حتى اليوم.
لذلك يختصر الزغبي المرحلة الأولى من هذه العلاقة التي ربطت السوريين بالجنرال بخلاصة واضحة: "أنّ عون كان مجرد ورقة في يد النظام السوري، يستخدمها للضغط في اتجاهين: على المسيحيين من جهة، أي الرئيس الجميّل و"القوّات اللبنانية"، وعلى القيادات الإسلامية، ولا سيما منها السنّية، من جهة مقابلة".

ميشال عون من الأسد الأب الى الأسد الابن-2
الجنرال يرفض عرضاً من الحسيني: تطلبون مني تأمين انتخاب غيري!

الاربعاء 19 تشرين الأول 2011

"ميشال عون من الأسد الأب الى الأسد الابن"، ملف جديد يسلّط الضوء على خفايا مرحلة غير عادية في تاريخ لبنان الحديث، وسلوك غير عادي لشخص امتهن السياسة من باب العسكر، فحارب الجميع من أجل نفسه ولا شيء غيرها.
صال وجال في ساحات التحالفات الداخلية والخارجية، أكثر منها في ساحات القتال، ولم يربح أياً من "معارك" الساحتين، لكن الجنرال ظلّ ثابتاً في حلمه، لا يتزحزح، لا بالبزّة العسكرية ولا المدنية. حنين قاتلٌ إلى "الكرسي الرئاسية"، وأحلام نهارية ومسائية جعلت حياة الجنرال ليلاً طويلاً طويلاً طويلا.
لم يجد حرجاً في نقل بندقيته من كتف الى آخر. راهن بداية على الرئيس السوري حافظ الأسد، ثم على الأميركيين، وعاد الى الأسد نفسه، قبل أن يلجأ الى الرئيس الفلسطيني "أبو عمّار" وبعده الى الرئيس العراقي صدام حسين ومعهما طبعاً فرنسا، ليأوي أخيراً الى الرئيس بشار الأسد، حيث لا يزال يتموضع حتى الآن ومن أجل الهدف نفسه والحلم نفسه.. كرسي بعبدا.
هذه المحطات واكبها اللبنانيون من بُعد ومن قرب، لكن بقيت وراءها وفي كواليسها وقائع لم يُكشف النقاب عنها حتى اليوم، ولم يكن ليحصل ذلك لولا انقلاب بعض المقربين من الجنرال عليه بعد أن انقلب على نفسه، فكشف بعضهم باسمه الصريح، لـ"المستقبل" أسراراً غير معروفة، فيما فعل آخرون فضّلوا عدم ذكر أسمائهم، لتكون هذه الشهادات في متناول اللبنانيين.
هذا الملف الذي تنشره "المستقبل" على حلقات، يتضمن روايات من شهود سابقين وآخرين مخضرمين، عن أحداث ووقائع تعكس عطش الجنرال المستديم لكرسي بعبدا التي هنأ بها لعام ونيّف من دون أن يهنأ بلقبها الأصلي، فلم ينل أكثر من رئاسة حكومة انتقالية، دفعته الى تبني سياسات "انتقالية" علّه ينتقل الى الكرسي الحلم.
في الحلقة الثانية، تسلّط "المستقبل" الضوء على خفايا مرحلة المفاوضات التي كان يقوم بها الجنرال عون للوصول الى رئاسة الجمهورية عشية انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل، لا سيما وأن الجو خلال العام 1988 كان يوحي له بأن السوريين يؤيدون وصوله الى قصر بعبدا "إذا نفّذ أجندة معينة". لكن تلك الإيحاءات "تبخّرت" كلها مع طلب الرئيس الأسد من النائب ميشال المر اقتراح اسم لرئاسة الجمهورية "لأن عون غير مناسب للرئاسة"، فاقترح عليه اسم مخايل الضاهر.
والواقع أن الجنرال أجهض أكثر من محاولة لانتخاب رئيس للجمهورية، إذ يروي القيادي في "التيار الوطني الحر" انطون الخوري حرب أن الرئيس حسين الحسيني كان يحاول تمرير انتخاب الرئيس فرنجية وناقش الأمر مع عون، فاتفق مع قائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع على تعطيل الانتخابات.
كما منع بكل الأساليب وصول مدني لرئاسة الحكومة الانتقالية حتى ولو ورد اسمه وزيراً فيها، وظل يناور للوصول الى بعبدا بأي ثمن، الى درجة أنه هدّد بانقلاب عسكري في حال تعيين غيره، كما يؤكد الناشط السياسي فايز قزي، وأن الجنرال أعدّ خطة لاحتلال القصر الجمهوري مع قائد اللواء الثامن العميد سليم كلاس حملت اسم "عملية صفر"، وطلب منه تنفيذها ليل 22 أيلول في حال تم تعيين غيره. وفي تلك الليلة، أعلن الرئيس الجميل تأليف حكومة عسكرية برئاسة الجنرال، لتتحقق له بذلك أول خطوة في رحلة "الألف حلم"... الى رئاسة الجمهورية.
وفي الحلقة أيضاً بورتريه للزميلة كارلا خطار عن "العواونة".
المر اقترح مخايل الضاهر بعدما أبلغه الأسد أن عون "غير مناسب للرئاسة"
الجنرال يرفض عرضاً من الحسيني: تطلبون منّي تأمين انتخاب غيري!

 الاربعاء 19 تشرين الأول 2011



إعداد: جورج بكاسيني وعبد السلام موسى

كان الجو خلال العام 1988 يوحي بأن السوريين يؤيدون وصول العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا، لكن الإيحاءات لم تُترجم على أرض الواقع كما دلّت الوقائع التي يؤكدها كثيرون كانوا مقربين من الجنرال في تلك الفترة، وفقاً لـ"تبادل العروض" الذي يتحدث عنه الناشط السياسي فايز قزي "بين عون والسوريين، والذي كان قوامه تنفيذ الجنرال أجندة معينة مقابل أن يحظى بمساندة سورية لما يريد الوصول إليه".
في تلك المرحلة، كان الجنرال يسرّ للياس الزغبي أنه سيصل إلى موقع معين لا يعرف ما هو، إما وزير دفاع أو رئيس حكومة انتقالية أو رئيس جمهورية. يقول الزغبي "إن السوريين كانوا يعدونه بهذه المكافأة قبل الأميركيين. كان يوحي لنا أن الورقة السورية بيده، لكن السوريين كانوا يمارسون معه لعبة ذكية. وهو كان يعتقد أن موقعه كقائد مؤسسة عسكرية خضعت للتدريب على يد الأميركيين، وأن تاريخه ضد الارهاب وضد الفلسطينيين ومشاركته الفاعلة في معركة تل الزعتر كفيلان بأن يجعلا ملفه أولاً عند الأميركيين، تماماً كما كان يعتقد أن ملفه هو الأول عند السوريين أيضاً. كان الجنرال يقول للجميع إنه المفضل لدى الأميركيين، وأن السوريين لا يحبونه، لكنهم يحترمون الأشخاص الذين يكونون مثله".
طبعاً، كان تبادل العروض يتم عبر موفدي عون على خطين: الخط العلوي وعلى رأسه "أبو وائل" (اللواء محمد ناصيف) الذي كان رياض رعد مكلفاً الاتصال به. وخط العماد حكمت الشهابي عبد الحليم خدام والمخابرات السورية الذي كان ينسق مع قزي والنائبين السابقين ألبير منصور ومحسن دلول. بيدَ أن اللافت، إشارة قزي إلى أن الضابط جميل السيد كان يلعب دوراً آخر، "أحياناً لوحده، وفي بعض المرات كان ينسّق معنا".
إعداد: جورج بكاسيني وعبد السلام موسى

السوريون لعون: كيف نقبل بك رئيساً
و"القوّات" تسيطر على "الشرقية"؟

الزغبي: الجنرال أسرّ لي أنه سيحظى بموقع لا يعرفه
إما وزيراً أو رئيس حكومة أو رئيساً للجمهورية

جهّز خطة انقلاب عسكري تشمل السيطرة
على القصر الجمهوري في حال عدم تعيينه

تتقاطع الروايات على أن رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني لعب دوراً بارزاً في تلك المرحلة، قبل حصول الفراغ الرئاسي. كان يروّج لاتفاق هندسه السوريون لتمرير الانتخابات الرئاسية، لكن هذا الإتفاق لم يّمر على عون عندما رأى أنه لا يؤمّن وصوله إلى قصر بعبدا، فاعتبره "لعبة سورية"، لأن "السوري" كان أذكى من أن يعطي عون وعداً واضحاً ورسمياً، ولكن الإشادة به بأنك "المنقذ الوحيد" كانت كافية لدغدغة مشاعره وحلمه الرئاسي.
في التفاصيل التي يسردها القيادي في "التيار الوطني الحر" انطون الخوري حرب "أن الحسيني حمل الاتفاق وذهب إلى قصر منصور (مقر مجلس النواب سابقاً)، وأرسل بطلب عون لمناقشة التفاصيل. قال له: أمّن الانتخابات بدايةً، فإذا حصلت، سيكون هناك رئيس جمهورية، وستلعب دوراً وطنياً مهماً، أما إذا لم تحصل الانتخابات وذهبنا إلى الفراغ، فما عليك إلا تأمين استمرارية حكومة الرئيس سليم الحص كحكومة مهمتها انتخاب رئيس جمهورية وعند ذاك يتم انتخابك"، أي انتخاب عون رئيساً.
عون لجعجع: طلبت
حاجزاً لا خطف الوزير
لكن الجنرال سأل، وكان في نظر حرب محّقاً: "تطلبون مني أن أحمي جلستين لانتخاب رئيس الجمهورية، وهناك مرشحون للرئاسة مثل سليمان فرنجية، كيف ذلك؟" ولذلك رفض عون لاحقاً تعيين مخايل الضاهر رئيساً للجمهوريّة، علماً أن رئيس "حزب السلام" روجيه إده يرى "أن الأسد رشّح فرنجية تكتيكياً، لكن الجنرال تصرّف بشكل غير عقلاني، وخرّب علاقته بالسوريين لأنه ساهم مع "القوات اللبنانية" في حينه بالحؤول دون حضور النواب للانتخاب، وهذا لم يزعج السوريين لأنه شكّل براءة ذمة لهم ازاء فرنجية، وأنا متأكد أنه لو تصرّف بعقلانية لكان بقي هو مرشح السوريين لرئاسة الجمهورية، لأنه كان مرشحّهم فعلاً".
اعتبر عون أن الاتفاق الذي حمله الحسيني مجرّد "لعبة سورية"، ما قاده إلى التعاون مع قائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع لتعطيل الانتخابات الرئاسية. حينها، اجتمع مسؤول الأمن في "القوّات" غسان توما مع مدير المخابرات في الجيش اللبناني عامر شهاب، واتفقا على أن تنصب "القوات" حاجزاً قبل المتحف، مهمته منع النواب من الوصول إلى المجلس النيابي، في موازاة العمل على ابلاغ النواب مسبقاً أن هناك حاجزاً لـ"القوات" قبل أن يصلوا إليه، سيما وأن جعجع سيستبق الجلسة بتسجيل موقف ضد الانتخابات، ناهيك عن تكليف ضباط من الجيش الاتصال بنواب في المنطقة "الشرقية" لإبلاغهم رسالة مفادها أن الجيش سيتولى أمنهم، بمعنى أن يبقى النواب في منازلهم".
ويُضيف حرب :"وُجد هذا الجو لتعطيل جلسة انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، لكن التعاون بين عون وجعجع سرعان ما تهاوى، بفعل اختطاف "القوات" في ذلك اليوم وزير الدفاع عادل عسيران الذي كان متوجهاً من مكتبه في الوزارة إلى المجلس النيابي، فقامت قيامة عون، واتصل بجعجع قائلاً :"طلبت أن تقيموا حاجزاً على المتحف، لا أن تخطفوا وزير الدفاع". على الفور، وقع الصدام بين "القوات" والشرطة العسكرية التابعة للجيش اللبناني.
بعد هذه الدوامة، يكشف حرب "أن منصور ودلول استمرا على خط الاتصال بالسوريين بغية الإبقاء على همزة وصل بينهم وبين عون، وكان شرط الجنرال عدم السماح للرئيس الجميل بتأليف حكومة ثانية إذا حصل الفراغ الرئاسي، فأبلغه السوريون عبر منصور ودلول أنهم يتفهّمون موقفه".
لكن قبل خروج الجميل من الحكم بأسابيع قليلة، حصل ما سمّي اتفاق "مورفي الأسد" بين الرئيس السوري حافظ الأسد والديبلوماسي الأميركي ريتشارد مورفي للاتيان بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية، وقد زار مورفي بكركي إثر هذا الإتفاق، وأعلن من هناك بعد لقائه البطريرك مار نصر الله بطرس صفير :"إما الضاهر أو الفوضى".
قبل اتمام الاتفاق بأسبوعين، اجتمع الأسد مع النائب ميشال المر في لقاء غير علني، وقال له :"ميشال عون يراسلنا راغباً بأن نوافق عليه رئيساً لجمهورية لبنان، لكن الظروف غير مؤاتية لذلك، فبمن تنصحنا يا أبو إلياس، خصوصاً وأنني سأستقبل بعد أسبوعين مورفي لنتباحث معاً في اسم الرئيس المقبل؟ المهم أننا نريد مارونياً نظيفاً و"قبضاي" لا يكون محسوباً علينا، ولكن ليس ضدنا، كي نحّل المشكلة". أجابه المرّ على الفور :" مخايل الضاهر". قال الأسد :"لا أعرفه. إشرح لي أكثر عن مواصفاته". فرّد المر :"الضاهر كان صديقاً لريمون إده، وهو صديق أيضاً لمالك جريدة "النهار" غسان تويني ونجله جبران، بصفته الوكيل القانوني للجريدة، لكنه شخصية معتدلة ومحترمة ويصلح لهذا الموقع". أجاب الأسد :"ناقش الأمر مع اللواء غازي كنعان، وليعد لي ملفاً كاملاً عن الضاهر، وأنتظرك الأحد المقبل لنتابع النقاش".
التقى المر بكنعان، وأخبره بما دار بينه وبين الأسد، فقال كنعان :"مخايل آدمي، لكنه غير مضمون سياسياً"، فسارع المر إلى الرد :"انا أضمنه".
على الأثر، اتفق المر مع عبد الحليم خدام على أن يلتقيا معاً بالضاهر يوم الثلاثاء المقبل، بعد أن طلب خدام أن يُعد الضاهر برنامجاً رئاسياً مكتوباً. فقام المر بإعداد البرنامج بنفسه قبل أن يتصل بالضاهر ويدعوه إلى منزله حيث أبلغه للمرة الأولى أنه اتفق مع الأسد على اسمه، وأن الرئيس السوري سيلتقي مورفي الأسبوع المقبل، وسيسعى معه إلى التوافق على إسمه. ثم أبلغه أن خدام ينتظرهما إلى مائدة الغداء يوم الثلاثاء، لافتاً إنتباهه إلى أنه يفترض أن يناقش معه برنامجه الرئاسي، وأنه أعد له مسودة، فإذا وافق عليها، يطبعها على أوراق تحمل اسمه.
قرأ الضاهر المسودة فأعجبته. حملها معه إلى مأدبة الغداء مع أبو جمال الذي ما إن قرأ صفحتها الأولى حتى قال :"ممتاز"، من دون أن يكمل قراءة الصفحات الستّ المتبقية، لكنه توجّه إلى المر قائلاً :" هل اطلعت عليها"، فرد "طبعاً". قال خدام :"إذاً، البرنامج ممتاز". ورمق الضاهر بنظرة، وقال له:"عيّن خير".
المر للضاهر: أنت الرئيس
بعد إنتهاء لقاء الأسد مورفي، استدعى الرئيس السوري أبو الياس إلى القصر الرئاسي، وقال له :"اتفقنا على مخايل الضاهر. أرجو منك أن تّتوجه إلى لبنان لتبلغه أنت شخصياً بالنتيجة. لن أدع أحداً غيرك يبلغه هذا القرار". كانت الساعة الحادية عشرة ليلاً، فقرر المر أن يتوجه فجراً إلى القبيات مقر إقامة الضاهر، ومن دون موعد مسبق. وصل في السابعة صباحاً ليجد مخايل برفقة مسؤول المخابرات السورية في عكار آنذاك العقيد محمد مفلح يشربان العرق ويأكلان القصبة النية.
فوجئ الضاهر بزيارة المر الصباحية:" في وجهك خبر .. خير؟" رد المرّ : "نعم، ولكن أريد أن أكلمك على إنفراد". ثم أبلغه باتفاق الأسد مورفي، وبأن الأخير سيزور بكركي وسيعلن موقفاً من هناك مفاده "إما الضاهر أو الفوضى". ثم أضاف المر قائلاً :"لكن نريد أن تضمن زعيماً مارونياً مؤيداً لك من ثلاثة، إما ميشال عون، أو أمين الجميل أو سمير جعجع، أو زعيم روحي هو البطريرك (مار نصرالله بطرس) صفير". فقال الضاهر: "سأستعين بغسان تويني ونجله جبران علّهما يقنعان الرئيس الجميل".
غادر المر القبيات. أطلق مورفي من بكركي شعار "إما الضاهر أو الفوضى"، فطارت الانتخابات، وطارت الجمهورية.
في ذلك الوقت كان الياس الزغبي في منزل عون:" قال له العميد سيمون قسيس (مدير المخابرات آنذاك) إن مورفي أتى من سوريا وسيذهب الى بكركي ليعلن اسم الضاهر، وسمير جعجع أدلى ببيان رفض فيه هذا الخيار، لذا من المفروض أن تدلي أنت ببيان رفض أيضاً. كنا في الصالون، أنا ومرافقه حبيب فارس والأب جورج رحمة، فطلب عون من فارس ورحمة أن يتوجها على الفور الى بكركي لمقابلة صفير وإبلاغه رفض الجنرال لما يجري. فقلت له هذا لا يكفي، يجب أن تدلي ببيان، وتقول فيه اننا نرفض تعيين رئيس جمهورية بهذا الشكل. المهم، أرسلهما الى البطريرك وعادا بعد حوالى ساعة ونصف الساعة، وأبلغاه ان فارس قال للبطريرك صفير "يجب أن تهز العصا، فعصاك تحمي". فقال صفير: "عصاي تحمي لكن أريد ما يحمي العصا".
أدار مدافعه باتجاه "القوّات"
كان توافق الأقطاب الموارنة كفيلاً بإجهاض اتفاق الأسد مورفي، فعادت الأمور إلى نقطة الصفر، فيما عادت "اللعبة السورية" إلى الواجهة أيضاً. كان فايز قزي في عنجر مجتمعاً بغازي كنعان عندما اتصل بعون، وأبلغه أن لا مجال لمحاربة "الاتفاق" القديم بأن يؤمّن استمرارية حكومة الحص، على أن ينضم إليها الجنرال نفسه وجورج سعادة وداني شمعون. لكن عون لم يوافق، لأنه كان لا يزال يراهن على ورقة أخرى هي وصوله إلى بعبدا من بوابة حكومة إنتقالية. وهذا ما حصل، حيث أعلن الرئيس الجميل تأليف حكومة عسكرية ليل 22 أيلول 1988، برئاسة عون، لتتحقق بذلك خطوة على طريق الألف ميل، بعد أن هدد الجنرال بانقلاب عسكري في حال تعيين غيره رئيساً للحكومة، كما يؤكد قزي الذي "أبلغ نية عون بالانقلاب إلى الرئيس الحسيني قائلاً: "إذا تجرّأ الجميل وعيّن حكومة أخرى، سيعتمد عون اسلوب الانقلاب العملاني، وسينتشر الجيش على الأرض لمنع الحكومة الجديدة من التحرّك".
والواقع أن عون أعّد خطة انقلاب لمس الرئيس الجميل ملامح منها من خلال الأميركيين عندما حضر مورفي إلى بيروت لإبلاغه بالاتفاق مع الأسد على الضاهر، حيث قال مورفي للجميل: "إن معاونين لي اجتمعوا بعون وأبلغوه بالاتفاق على الضاهر، لكنه لم يكن مرتاحاً على الإطلاق، وأبدى عصبية واضحة تجاه هذا الاقتراح".
جاء ذلك بعد أن كان عون يتوقع دعماً أميركياً له لا للضاهر، في موازاة رسائل سورية كانت تصله عبر رعد ومنصور ودلول مفادها أن سوريا تؤيده في معركة الرئاسة" ولكن كيف نقبل بك رئيساً للجمهورية و"القوات" تسيطر على المنطقة الشرقية"؟ فما كان من عون إلا أن أدار مدافعه باتجاه "القوات" لإثبات حسن نيته تجاه السوريين.
كان ذلك قبل نهاية عهد الجميل الذي اضطر فور معرفته بنوايا عون إلى التوجه إلى وزارة الدفاع حيث اجتمع بحوالى 600 ضابط وأبلغهم رسالة حازمة مفادها التحذير من الإنجرار إلى أي حركة تضّر بمصلحة البلد. وقال لهم: "أريد أن تكونوا حماةً للاستحقاق (الرئاسي) وليس ضحية له".
ولكن لماذا أتى الجميل بعون رئيساً للحكومة؟
يؤكد مطلعون أن الجميل حاول بداية إقناع الرئيس الراحل شارل حلو بترؤس حكومة إنتقالية لكنه لم يرض، ثم حاول مع النائب الراحل بيار حلو الذي لم يرضَ أيضاً، فاتصل هاتفياً بالرئيس سليم الحص، إلا أن الأخير وضع شروطاً أبرزها أن لا تضم الحكومة عون وجعجع، فرد الجميل: فليكن لكن على أساس أن لا تضم نبيه بري ووليد جنبلاط أيضاً. فرفض الحص ولم يعد أمام الجميل سوى خيار وحيد هو الإتيان بالمجلس العسكري الذي كانت عيّنته حكومة الرئيس رشيد كرامي باعتباره يمثل كل الطوائف، وقام شخصياً بالاتصال بالضباط المسلمين "الذين وافقوا قبل أن تعلن وسائل الإعلام المقربة من سوريا استقالتهم، وذلك بعد ساعات على إعلان الحكومة".
خطة الانقلاب: "عملية صفر"
أما خطة الانقلاب التي لم تُنفذ، فقد أطلق عليها الجنرال اسم "عملية صفر" (Operation zero). بدأت معالمها بالظهور قبل أسبوع تقريباً من موعد الاستحقاق كما يقول انطون الخوري حرب: "دخل عون إلى مكتب وزير الخارجية آنذاك ايلي سالم وقال له: قل لرئيسك اذا لم تحصل الانتخابات الرئاسية في 23 الشهر، سوف أسيطر على كل مؤسسات الدولة. وكان عون قد جهّز خطة تشمل السيطرة على القصر الجمهوري أيضاً بعد تنسيقها مع قائد اللواء الثامن سليم كلاس الذي كان المفضل لدى الجنرال، لأنه كان لواء مؤلّلاً ومجهّزاً. في ليل 23 أيلول، أرسل عون بطلب كلاس، وقال له :أنا ذاهب لمتابعة الأخبار وسأبقى على اتصال معك. في حال لم يصدر مرسوم تعييني، تباشر أنت بتنفيذ الخطة. وكان متفقاً أن يسيطر على القصر الجمهوري العميد ميشال أبو رزق الذي أصبح في ما بعد قائد لواء الحرس الجمهوري".
وعلى هذا الاساس، توجه عون إلى قصر بعبدا، وفي نيته رفض أي حكومة يرأسها مدني ولو كان هو مشاركاً فيها. عند الثانية عشرة إلا ربعاً، تحدث كلاس مع عون فطلب منه أن يتريث "لأنه يبدو أن المرسوم سيظهر. طوّل بالك". فرد كلاس :" اللواء الثامن جاهز، والضباط ينتظرون تنفيذ الأوامر".
فور تولّي عون مقاليد الحكومة الإنتقالية، قطع علاقته بالسوريين، وأبلغهم بحسب رواية قزي "ان العلاقة ستكون من الآن وصاعداً من دولة الى دولة عبر الأمين العام لوزارة الخارجية الأمير فاروق ابي اللمع ، بسبب ما اعتبره عون موقفاً سورياً عدائياً لدى منع الضباط المسلمين من المشاركة في حكومته، وبدأ منذ ذلك اليوم التحضير لصيغة تضمن استمرارية حكمه".
رغم أن عون قطع علاقاته بالنظام السوري، إلا أن قزي ومنصور ودلول تمسكوا بالحفاظ على شعرة معاوية بين الطرفين، وصولاً إلى تحسين هذه العلاقة قدر المستطاع قبل "حرب التحرير" كما يقول قزي.
كان لا يزال لدى الجنرال أمل بالسوريين، الى ما بعد تعيينه رئيس حكومة، وكان رهانه أن يسمحوا للضباط المسلمين بالالتحاق بالحكومة فينتهي من جعجع، لكن تبيّن أن لا جدوى من السوريين.
استمرت العلاقة مقطوعة معهم الى حين تدهور الوضع مع "القوات" أثناء "حرب الإلغاء" ، وتحديداً بعد سقوط كسروان وبيروت تحت سيطرة "القوات". حينها شعر عون بالإختناق، لدرجة أن إيلي حبيقة والقوميين بدأوا يمدونه بالمحروقات، ثم أرسل وفداً إلى العميد غازي كنعان الذي طلب إقامة علاقة بشخص يمثل رسمياً ميشال عون وليس مع جهة سياسية مؤيدة له، فاقترح بيار رفول، وتحدد موعد للأخير مع كنعان، لكنه لم يحصل، لأن الإجتياح السوري للقصر الجمهوري كان قد سبقه صباح 13 تشرين الأول 1990".

عندما صار الكتاب البرتقالي.. قشوراً

يقظان التقي

ذلك الكتاب البرتقالي..
أصلاً البرتقالي لا يُعتبر لوناً رئيساً بين الألوان الضوئية لأنه مزيج بين الأحمر والأصفر، وبلا جدوى. لونٌ محمول على مجهول لا يعرفه أحد ويأتي من مجهول الأشياء. لا يُنهي مسافة. اللون البرتقالي لا يقطع مسافة ولا يلغي مسافة.
كأنها مفاجآت الكتب التي تُسّمى بأسماء اصحابها. "الكتاب الأخضر" الذي عمّر طويلاً مع قذافي الدم، والأحمر التروتسكي والستاليني وملايين القتلى، والأصفر في لون الحرب الباردة بين الكوريتين والآسيويتين ومن ينساهما! إلى البرتقالي. كأنّ ظلاً يجاري لون الجنرال والكل يخرج علينا بنشيد وآخر.
كتاب الجنرال عشية الانتخابات، وإلى أقصى ما في قلب "التيار"، لم يعد له مكان، تهزهزه ورقاً أصفر ضمناً، من كثرة التقلبات والأخطاء والأهواء القاتلة والتزلف والحضيض السياسي ورعاية العنف والسلاح وطأطأة الرأس، وأدبيات يعرضها. لكن لم نعد نعرفها. كأنّ الجنرال عون كان وهماً، بلا قضية اصلاً وما زال، ومسار لظاهرة صوتية أكثر، تمددت إلى شريحة مبهمة، وفي متنها حجم كبير من فراغ وشعور بالخواء، بلا خجل ولا هوية ولا انتماء. كما لو ان الشجرة ترمي أوراقها في "خريف الكافرات".
وثيقة من مبادئ وتفاهمات بلا حواس وبأوجاع كثيرة في الرأس والوجه واليدين والمفاصل، أقرب إلى الحكم المبرم على تيار شبابي حيوي لم يكن طائفياً، واستعجل الجنرال عون إلى خنقه ودق رأسه بفوضوية صاعقة وبنشوة انتصار مبهمة امام حائط رئاسة تهدم كل ما حوله بإيقاع غير بنّاء.
طارت الرئاسة الأولى من الجنرال، من عينيه ويديه وطوله وجسده، ومن كل المسافات التي حققها بخطوات متعثرة ومفرقعة بين قصر المهاجرين في الشام وبين قصر مزعوم لدى "حزب الله" وقلب أمينه العام السيد حسن نصرالله، وضاع كتاب الجنرال عون بين "القصرين"، بين الحليفين. وطالت غضبة الجنرال سدى سياسياً زائفاً، سيقود بالنهاية إلى نفاد الأحوال.
الكتاب البرتقالي اليوم من دون أرض. نجح الجنرال في استنفاد الوقت، لم يهمل شيئاً قاده إلى العدم ما خلا وزارات بلا قسمة ولا خروج، وإلى أفول ولا شيء يذكر. كان جزءاً من الخارج من جيوبوليتيك الخارج دائماً وما يزال على حساب الداخل الوطني وعلى حساب الرفاق، يطوي أوراقه ويفتحها على مساحة من العبث والتناقض ونافذة على مكان لا يُقبل بالسياسة كفنّ إخراج ولن يعود منه.
هو اللون البرتقالي بلا لون إذن، من الوجه إلى الوجه. عينه على الكرسي وحده. ذاكرة مفتوحة على هواء خاسر برتقالي من دون تاريخ وفي زمن فارغ. مرة جديدة الجنرال يقوده كتابه إلى الحائط، إلى الجدار، إلى الفن السياسي الهابط، وإلى الأسف وإلى ما بعد الأسف إلى ثوب سياسي يسقط إلى نقطة السقوط. لا بل الأوراق البرتقالية لا تُقبل ولا تعود، لا تبقى ولا تسقط، لعلاقة مع المجتمع في فراغ سياسي وهزال ولجنرال مثل الباب المغلق ينسى كلامه والهواء.
حتى الكتاب البرتقالي لم يفتحه ولم يلمسه، ربما، ولم يرد على ما جاء فيه لصالح الوجه الجامد، والوجه المشدد بماكياج الرئاسة. الوجه سلّم لونه وعينه إلى الكرسي، مسرحة ديكور سياسي يمدّ صوته وشعره، صراخه إلى تلك الاشياء غير الآتية ويتكرر زمن الكرسي الفارغ والشاحب.
استبدل الجنرال البرتقالي المساحة الاستقلالية الوطنية اللبنانية والمسيحية بالمساحة الصفراء. كما استبدل النافذة المفتوحة الإسلامية المسيحية على أساس المناصفة بإعادة تأويل الطائف لصالح التحالف مع طرف ثالث يرفض الطائف بحجّة أن ما قبل الطائف هو غير ما بعد الطائف مع يقظة ولاية الفقيه الثيوقراطية. ثم ان المنطق المسيحي الذي يقول بدور المسيحيين التاريخي والنهضوي بوجه اضطهاد أي طائفة لطائفة أخرى أو لطوائف أخرى، وعلى أساس الحرية والديموقراطية ذهب مع الريح الايديولوجية لصالح شمولية مسلحة غير ديموقراطية وغير ليبرالية وطائفية.
ثم المنطق الذي يقول بمراجعة تاريخية لفكرة الحروب كنهاية لزمن العنف والميليشيات ولشيء من السلم الأهلي، تحوّل إلى منطق آخر، وشيء آخر تماماً بالدفاع عن "حزب السلاح"، الذي يستميت بالدفاع عنه، ومن موقع الحليف للدولة ضمن الدولة والتهاون مع منطق الاستقواء على الجيش والمؤسسات والنسيج الوطني وكل ما يصب في تحالف الأولويات.
"مرشد" الثورة البرتقالية هو مَن احرق كتبه بالخضوع التام لمنطق "الغيتو" والسكوت على الظلم والعنف والقمع والإرهاب وقضم الأراضي والملكيات وابتلاع حياة الناس وخرق وبعثرة الفسيفساء اللبنانية الإيجابية والجميلة كهوية ميثاقية وتحويلها إلى هوية ذمّية وفقاً لفلسفة التدمير والإلغاء وفلسفة فن "التفرقع السياسي" وبلا جدوى ولا مبالاة.
الغريب أن اللون البرتقالي هو لون الحب الأقصى، وهو لون زيّ الرهبان المعروف بالماندارين، حوّله الجنرال بعصبيّته إلى لون آخر، زهايمر عصبي لوني، مفتاح ذاكرة لمدى التزام "التيار الوطني الحر" بكتابه وبرنامجه، من مثل دعواته إلى حصر العلاقات الخارجية بالدولة اللبنانية ورفض منطق الأحلاف بين الأحزاب والطوائف والدول والإفساح أمام الجيل الطالع والمثقفين للانخراط في العمل السياسي ولا نرى إلا الصهر جبران باسيل يطلع من الكتاب في حكاية ألف ليلة وليلة والتيار: روميو وجولييت التيار الوطني الحر في آن ولا قصة حب أخرى. أما حكاية تطوير القضاء اللبناني وتفعيله ليصبح بمستوى التحدي والإصلاح والتغيير فتذهب إلى الأقصى بمحاولة إسقاط القضاء في دفاع التيار عن العميد العميل فايز كرم وعن أسماء أخرى لو كُشف عنها لانهارت مؤسسات كبرى في البلاد. أما تسهيل عودة المهجرين والمبعدين والمعتقلين والكشف عن مصير المخطوفين في السجون السورية عند "الأشقاء"، وتحديد الحدود الفاصلة بين لبنان وسوريا وإلغاء المجلس الأعلى اللبناني السوري والاتفاقيات المجحفة بين البلدين. كل ذلك أضاف إليه الجنرال تسهيلاً آخر لتهجير كل المسيحيين في لبنان والمنطقة بأهواء الجنرال المنحازة إلى نظام الطغاة الأقلّوي في المنطقة وبالتسرّب السياسي الكبير بإدارة السفير السوري في لبنان علي عبدالكريم علي.
هذا هو اللون البرتقالي والكتاب البرتقالي الذي عرفناه. قد نظلمه. ولكن لا يعطينا ذلك الانطباع الشيء الذي فقدناه، والشباب العوني الذي قيّد إلى فراغ سياسي عابث وطائش وفشل سياسي فظيع بسبب السقوط في شرك الأخطاء وغياب الرؤية الاستراتيجية والظنون والتوهمات والربحية التكتيكية الزائلة. هكذا قرر الجنرال بعد عودته أن ينتقم منّا ومن رفاقه في فضاء عدواني مغلق. فكّر كثيراً في خطة الانتقام والثأر والتملص من 14 آذار، ومن كتاب رفاق الأمس. فخدع الجميع والشعب العظيم ومكث في منفاه كل السنوات التي قضاها إلى الآن بعد عودته من منفاه.
هي حكاية الجذب الصوفي إلى ولاية الفقيه إلى القائد والعسكري والمرشد وبطل الحروب العابثة والنهاية إلى رجل اللاشيء، لدرجة لم يعد يعرف الرفاق أي لون برتقالي هو هذا الذي يلبسه الجنرال؟ ينهار اللون البرتقالي بلا مبالاة.. بلا مبالاة وحيث لا تُربح المعارك بالصراخ الدونكيشوتي الذي ينطلق مع كل هواء واجتماع لتكتل "الإصلاح والتغيير".
يوم الاثنين أصبح يوماً مرعباً!
جيد الالتفات إلى الكتاب البرتقالي للتأكيد على أي عتبة يقف الجنرال، وحيث لا جدواها والانجازات غير المكتملة، إلا إذا كانت محاربة الفساد بجبران باسيل، الصهر "المتبرجز الصغير" الذي يشتري البيوت والعقارات بأموال "الابداعية السياسية" ومن أين له تلك الثروات البرتقالية؟
هذا خير دليل على تناقضات الكتاب العوني بين القول والفعل إلا إذا البعض قد أصيب بالزهايمر الأخاذ.. أهو المنفى الباريسي وقد استنزف كل نكساته وهزائمه وخزائن الدولة، أم هي هزيمته مرة جديدة وهو يحاول تغيير الواقع والعالم فيسقط بالضربة القاضية مع أسياده الطغاة والشموليين والايديولوجيين الراحلين مطلقاً؟
هكذا تنتهي حكاية وثيقة التفاهم إلى نوع من العبث الذي كان، والاستهتار بدماء الناس واللامبالاة والاستسلام للأقوياء بإرادة واعية. ولا تعود القراءة مهمّة داخل الأوراق وخارج الأوراق. وهي رواية اللون البرتقالي وحكاية الجنرال الذي لم يعرف لنفسه لوناً ولا وصفاً ولا غاية. وحاول بقسوة السيطرة على كل شيء لأجل كرسي مستعصٍ، ولم يجد إليه طريقاً فسقط من علو الرابية شخصية متأزمة، سيزيقية، من دون كينونة حقيقية ولا أمل للهروب من الظلام بالجري في الظلام.

ميشال عون من الأسد الأب الى الأسد الابن-3
أول لقاء بينهما كان في تونس في منزل السفير اللبناني.. لكن من دون علمه
جنرال "التحرير" لجأ إلى أبو عمّار فطلب منه وقف "حرب الإلغاء"

20111020

ما إن أصبح العماد عون رئيساً للحكومة الانتقالية حتى صار همّه الوحيد الحفاظ على هذه "الغنيمة" كجسر عبور إلى رئاسة الجمهورية. قَطَع علاقته بالنظام السوري آنذاك، فبات وحيداً يحتاج إلى علاقة أخرى تحميه. فلم يجد سوى الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ليكون بوابته إلى العالم العربي.
سانده "الختيار" بلا حدود. أبلغه في لقائهما الأول في تونس ما حرفيتّه: "سنسلّمك البندقية الفلسطينية في لبنان، وسنتولّى دعمك والدفاع عنك في المحافل العربية"، قبل أن يصبح أبو عمار "عرّاب" علاقة عون بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين، حيث دخل الجنرال في لعبة الصراع الفلسطيني السوري ومن ثم الصراع العراقي - السوري، وعينه على أن يُطيح أبو عمار وصدام بحافظ الأسد ليصبح رئيساً للجمهورية. لكن رهانه خاب كالعادة.


كان الناشط السياسي فايز قزي عراّب علاقة عون بـ"أبو عمّار"، إذ رأى فور انقطاع علاقة الجنرال بالنظام السوري أن عون صار في حاجة إلى مظلة عربية أخرى، تعوّض حال القطيعة مع سوريا. نظّر لهذه الفكرة وأقنع عون بها، ثم ترجمها على أرض الواقع.
كانت البداية في تونس، حيث كانت "اللجنة السداسية العربية" تسعى إلى "صيغة حل" بين حكومة ميشال عون وحكومة سليم الحص، لكن السوريين لم يتعاونوا معها. يقول قزي "ذهبت مع الجنرال إلى هناك، وكنت قد رتّبت له موعداً مسبقاً مع أبو عمّار، بعد أن أقنعته بأنه يفتقد إلى بوابة عربية، ولا يجوز أن يكون رئيساً للحكومة وليس لديه علاقات عربية، وأن المفتاح الأساسي لهذه العلاقات هو الفلسطيني، وأبو عمّار بالذات".
التقى قزي موفداً من جانب أبو عمّار، وتم الاتفاق على ترتيب اللقاء في تونس، حيث كان "الختيار" حريصاً على دعم عون أمام "اللجنة السداسية" التي كان يرأسها وزير خارجية الكويت آنذاك الشيخ صباح الأحمد الصباح. حاولت اللجنة، أن تنظّم لقاءً بين الحكومتين. وافق الجنرال. لكن الرئيسين حسين الحسيني وسليم الحص لم يحضرا، ما عَكَس ممانعة سورية لهذا اللقاء، فسجّل عون أمام "اللجنة السداسية" أن حكومة الحص لم تكن تستطيع التصرّف بحرية، بل كانت "رهينة" القرار السوري.
إعداد: جورج بكاسيني وعبد السلام موسى
الحكومة الانتقالية فتحت شهيّته على إقامة
"مصرف مركزي" في "الشرقية"
إده: أراد إقامة دولة يكون رئيساً عليها
طالما لا يستطيع أن يكون رئيساً لكل لبنان
"أبو أيمن" كان همزة الوصل بين الجنرال
وأبو عمّار فأقام في فندق "البستان"

ما حصل في تونس كان "انتصاراً معنوياً" للجنرال. نجح في خطب ودّ العرب الذين كانوا لا يرتاحون للأداء السوري في تلك المرحلة، خصوصاً في لبنان. عاد إلى بيروت منتشياً، بعد أن عزّز أسهمه مع الجانب الفلسطيني، عندما سلّمه أبو عمّار البندقية الفلسطينية في لبنان.
كيف حصل اللقاء الأول بين الرجلين؟
قبل أن يخوض قزي في تفاصيله، يشدد "حرصاً على التاريخ الذي زوّره بعض العونيين، على أنه هو من رتّب اللقاء بين عون وأبو عمّار من ألفه إلى يائه، من دون علم أي شخص من فريق عون، بمن فيهم المسؤول العسكري العقيد فؤاد الأشقر، وعلى وجه الخصوص يوسف الأندري الذي كان مسؤولاً إعلامياً، والذي يذكر الأرشيف الرسمي العوني أنه رتّب اللقاء مع أبو عمّار "وهذا كذب وتزوير للتاريخ" يقول قزي، ليسرد كيف تم اللقاء في تونس: "بعد نزول الوفد اللبناني برئاسة عون في فندق "هيلتون" ذهبت إلى مكتب أبو عمّار الذي استقبلني بالقول: "حدد الموعد الذي يريده الجنرال وأنا استقبله في مكتبي"، فرفضت ذلك، وقلت لأبو عمّار: "لا، لن يأتي عون الى المكتب، أريدك أن تذهب أنت اليه في الفندق، فهو جاء من لبنان، ويحتاج الى دعم، وحتى تستطيع أن تعزّز قوّته على خصومه، لا يجوز أن تستقبله في مكتبك".
اقتنع أبو عمّار بوجهة نظر قزي، وسأله: "هل تريد أن يتم اللقاء في السفارة الفلسطينية؟" فأجاب الأخير بالرفض أيضاً، فقال أبو عمّار: "أين تريده إذن؟" اقترح قزي أن يكون في فندق "هيلتون". لكن عرفات لم يوافق لكونه رئيس دولة، والبروتوكول لا يسمح له بالذهاب إلى فندق للقاء رئيس حكومة.
في نهاية المطاف، اتفق قزي مع أبو عمّار على أن يتم اللقاء في بيت السفير اللبناني لدى الجامعة العربية سليمان فرح، عند التاسعة والنصف صباحاً: "لم أبلغ فرح بموعد اللقاء، لاعتبارات أمنية تتعلق بعون وأبو عمّار، واعتبرت أن الأخير كفيل بإبلاغه بذلك إذا أراد. سَبَقنا أبو عمّار إلى بيت السفير بنحو خمس دقائق، فوجد المدخل مغلقاً. نادى حارس المنزل كي يفتح له، ثم دخل وجلس ينتظرنا، إلى أن وصل فرح بعد أن أبلغه الحارس أن أبو عمّار في المنزل، فجنّ جنونه، لأنني رتبت اللقاء من دون علمه".
أبلغ أبو عمّار عون في لقائهما الأول ما حرفيتّه: "سنسلّمك البندقية الفلسطينية في لبنان، وسنتولّى دعمك والدفاع عنك في المحافل العربية، وبخاصة مع اللجنة السداسية". أكثر من ذلك، عرض أبو عمّار على عون مساعدات عسكرية سخّية لم يُكشف النقاب عنها، كما لم يتجّرأ الجنرال على قبولها. حتى أن الرئيس الفلسطيني عرض على الجنرال قوة عسكرية لاحتلال المصرف المركزي في بيروت "الغربية"، لكن الجنرال تردّد خوفاً من ردود الفعل المسيحية واللبنانية وحتى ردود الفعل العربية الأخرى.
جاء عرض عرفات رداً على فكرة كانت تراود عون في ذلك الحين بإقامة مصرف مركزي في المنطقة "الشرقية"، لأنه كما يقول روجيه إده كان "يريد أن يقيم دولة في منطقته، هو رئيس عليها، طالما أنه لا يستطيع أن يكون رئيساً على كل لبنان. لم يكن همّه وحدة لبنان بقدر ما كان همّه أن يصبح رئيساً".
إذاً، نال عون ما يريده من أبو عمّار، "فقد كان يهمّنا أن يفتح أمامنا بوابة الخليج والعراق على الأقل"، وهذا ما حصل كما يضيف قزي، إذ عدنا الى بيروت، واستمرت العلاقة بين الجانبين بواسطة همزة وصل بينهما يدعى "أبو أيمن" كان يقيم في فندق "البستان" في برمانا.
[ عرفات عرض عليه
مساعدات عسكرية سخية
أما بوابة العراق فكانت مفتوحة أمام عون قبل علاقته بأبو عمّار الذي لعب دوراً كبيراً في تطوير هذه العلاقة التي تعززت أكثر وأكثر مع بداية "حرب التحرير"، وهذا ما يؤكده قزي وبعض المطلعين على هذا الملف: "حين بدأ الصراع بين "القوات" وعون في حرب "الإلغاء" طلب مني أبو عمّار في تونس العمل على وقف هذه الحرب، واقترح تأليف لجنة مشتركة للتفاوض، وهذا ما حصل فيما الحرب كانت لا تزال دائرة. حينها، أطلعت الجنرال على محضر اللقاء مع أبو عمّار، وأبلغته أنه يريد أن ترسل ممثلاً عنك إلى تونس، فقال: "ليس لدي من أرسله، وإذا أردت إذهب أنت"، فقلت له: "أنا لا أمثّلك، أنا صديقك، وهم يريدون شخصاً من فريقك". فرّد: "إذا لم تذهب أنت فلن أرسل أحداً".
رضخ قزي لإرادة عون انطلاقاً من حرصه على تحصين العلاقة التي بدأها مع أبو عمّار والعراق. ذهب إلى قبرص، ومنها استقّل الطائرة إلى تونس، حيث وجد إلى جانبه توفيق الهندي الذي كان مستشاراً لقائد "القوات اللبنانية"، ليتبين لاحقاً أنهما ذاهبان إلى الشخص نفسه، أي أبو عمّار الذي كان موكبه ينتظرهما في المطار.
عندما وصلا الى مكتب أبو عمّار، قال الأخير للهندي: "لماذا فعلتم ببعضكم هكذا يا توفيق". فرد "نحن لم نفعل شيئاً، نفّذنا خطة دفاع ويجب أن تسأل فايز". قال قزي: "مهلاً توفيق، ومن أوّل الطريق يجب أن يتم توضيح هذه المسائل. فكلمة أننا نفّذنا خطة دفاع، ممكن أن ترددها امام كل الناس وفي كل المحافل، إلا أمام أبو عمّار وفي حضوري أنا. الجيش الإسرائيلي سيحتلّ الوطن العربي كله، ولا يزال يسمّي نفسه جيش الدفاع الإسرائيلي. أنا أتيت لأقول لك إن لا مانع لدى الجنرال من الوصول إلى حل، ومن ثم يمكن معالجة بعض المسائل التفصيلية في موعد آخر. وبالفعل جرى تحديد موعد جديد في بغداد. أرسل عون الى هذا اللقاء العميد فؤاد عون، ومنذ ذلك الوقت أصبح قزي خارج دائرة هذا الملف الذي صار تحت إشراف المخابرات العراقية

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها