رد على مقالة البطريرك
زكا الأول عيواص في شأن هوية السريان
2005-06-26
ما نعلمه في التنظيم الآرامي الديمقراطي عن رؤسائنا الروحيين لا يتوافق مع
ما ينشر باسمهم في بلاد الدكتاتورية البعثية العربية. لذلك نودّ التوضيح أن
ردّنا هنا ليس على قناعات البطريرك بل على المقالة التي نشرت باسمه. ففيما
يلي رسالة موجّهة للبعث العروبي الشوفيني: إننا نفهم ضغوطكم على رؤسائنا
الروحيين من ضمن قناعاتنا بأنكم تمثلون سلطات احتلال ضد حضارتنا المسيحية
المشرقية الآرامية السريانية. لقد قرر التنظيم الآرامي الديمقراطي الرد على
المقالة بطريقة تقطع الطريق أمام البعثيين الساعين الى دق اسفين بيننا وبين
قيادتنا الروحية، لذلك يأتي ردنا موجها لأصحاب العقيدة العروبية وليس
للبطريرك.
في الواقع، إننا نعلم أن بطريركا سريانيا لا يمكن أن تخفى عليه حقائق
يعرفها أصغر السريان سنا، لسببين: أولا لأن المثقفين السريان يعرفون أن ما
جاء في منشور البطريرك يتعارض مع الحقائق الى حدّ يجعله مدعاة للإستغراب
والسخرية (كما ثبت من ردود الفعل على المقال)، وثانيا لأن المثقفين
والديمقراطيين من العرب لا يتوقعون منّا ومن ممثّلينا التكاذب لكي نعيش
بسلام ووئام في بلاد الأجداد (كما نعرف عنهم في بلاد الإغتراب، حيث حرية
الفكر). لذلك فإن المقالة تنضح بعثوية وعروبة فاشية.
نريد أولا أن نذكّر القرّاء أننا ما كنا سنحتاج الى هذا السجال لو كنا نعيش
في دولتنا الآرامية السريانية، ونتكلم فيها لغتنا الآرامية الأم المقدسة
على اختلاف لهجاتها، أسوة بكل الشعوب السيدة، ولكن السلطات العربية المسلمة
المتعاقبة، وآخرها البعثية، حرمت شعبنا من ذلك الحق القومي حتى الآن. فلو
كان لنا دولة سيدة مستقلة كما للعرب مثلا، لما كان أحد، مهما بلغت جهالته،
ليتصور إمكانية إطلاق كلام من قبيل ما جاء به قلم "البطريرك". ولكن، وبما
أن السلطات العربية المسلمة حرمت شعبنا السرياني منذ قرون عديدة مديدة من
أي حق قومي أو سياسي أو ثقافي، فإن الكلام المحسوب على البطريرك، رغم كونه
أشبه بالهذيان بالنسبة الى مختلف المثقفين من ابناء الشرق الأوسط من
آراميين سريان أو عرب، فقد أصبح كلاما مسموعا مقروءا، لا لشيء إلا لأنه
صادر عن مرجع أعلى. فلو كان لشعبنا مراجع علمية عليا، غير تلك الدينية، لما
تمكن البعث من استغلال منصب هذه الأخيرة وزجها في ساحة ليست ساحتها: علميا
وتاريخيا وثقافيا وغيره وغيره. نحن، في التنظيم الآرامي الديقراطي نفهم
غيرة "البطريرك" في استجداء عطف السلطات العروبية الفاشية ضمن سياق
الإملائية الدكتاتورية أو توافق المصالح بينهما في تأمين استمرارية السلطة
المتبادل.
والآن الى الرد:
في الشكل:
إختلط على السيد "البطريرك" وهو في موقع رأس السلطة الكنسية السريانية
الأورثوذكسية، إدراكه التوفيق بين مسؤوليته الراعوية الدينية مع مسؤوليته
السياسية المدنية. فمن الجيد أن يتحمل البطريرك أعباء الرعية بروح
المسؤولية الدينية وأن يتحلّى بالإندفاع في المسؤولية المدنية. إلاّ أن
مرجعية البطريرك المدنية ليست سلطوية كما هي في المسائل الدينية. فمسؤوليته
المدنية السياسية لا تشمل تحديد هوية الشعب الذي ينتمي إليه. إن الهوية
القومية إرث لا يقرّره لا البطاركة ولا غيرهم مهما علا شأنهم. جل ما
نستطيعه اليوم هو القبول بهويتنا أو التنكر لها، فنحن الأحياء اليوم من
أبناء أمتنا، لا نستطيع اختيار هويتها القومية، ولكن من المعروف أن هناك من
يريد التخلي عن هويته القومية لأسباب عدة والإنتماء إلى مجموعة أخرى. لذلك
فإن من يملون أوامرهم على البطريرك أو غيره من قادة الرأي تأخّروا حوالي
ثلاثة آلاف سنة في مشروعهم، إذا كانوا يريدون إلصاق هوية ما بشعبنا
السرياني الآرامي، وتأخّروا حوالي ألفي سنة إذا كانوا يريدون تعريبنا.
إقتراحنا على "البطريرك" هو أن يدعم التنظيم الآرامي الديمقراطي في سعيه
إلى إنشاء كيان سرياني آرامي مستقل سيد يكون فيه حد أدنى من الحرية
الثقافية ما يمكّن المفكّرين أمثال البطريرك وغيره من مناقشة هذه المواضيع
بروح من الإستقلال عن التجاذبات البعثية أو الديكتاتورية الأخرى، فتظهر
هويتنا القومية على حقيقتها بدل أن تأتي معلّبة حسب إملاءات الحكام
أوالمحتلّين.
وأيضا في الشكل، فمن ميزات الهواة غير الرصينين وغير العلميين في الكتابة
عن التاريخ أن يستعملوا تعابير تفضح الغاية الدفاعية أو الإتهامية عندهم،
فيكتبون "تاريخا" لا كما حصل بل كما يحلو لهم أن يكون قد حصل. وهذا ما
ينطبق، للأسف، على خطاب "البطريرك" الذي يحاول تقليد العلم. فهو لا يتذكّر
من علاقة الكنيسة السريانية بالبيزنطية غير المعاناة من أصناف العذابات،
بينما لا يرى من العلاقة بين الكنيسة السريانية وبين السلطة العربية
الإسلامية إلا أياما حلوة. ومن لا يعرف الحقيقة يتصور أن اختفاء السريان من
بلادهم المشرقية جاء على يد البيزنطيين خلال القرون الأربعة عشر الأخيرة.
ولكن من من السريان لا يعرف الحقائق المرّة تلك؟
في المضمون:
يبدو مما جاء عن قلم "البطريرك" أن الكاتب لم يطّلع إلا على مراجع عربية.
لماذا؟ ألأنّه بعثي عربي لا يجيد إلاّ قراءة العربية؟ لذلك، ننصح
"البطريرك"، أو من كتب المقال إذا كان سريانيا، وإذا كان يخاف من "وباء
الأفكار الأمبريالية الإستعمارية المبطّنة في المراجع الأوروبية"، أن يراجع
كتابات آبائنا ومؤرّخينا السريان عندما يريد أن يتعرف عليهم وعلى هويتهم.
فمن من المؤرخين السريان (من ميخائيل الى ابن العبري) قال عن السريان أنهم
عرب، كما يدّعي "البطريرك"؟ وفي انتظار الجواب يمكننا أن نذكـّر "البطريرك"
أو الآمر بكتابة مقاله أن لدينا مؤرخين سريان أو غير سريان اليوم، متخصصين
بتاريخنا وحضارتنا، يمكنهم أن يقوموا بالمهمة بدلا عنه، فيتفرّغ هو للكتابة
في مواضيع هو أبرع فيها من غيره. وبذلك يوفّر على نفسه وعلى السريان مهانات
لا تليق بهم.
لا بد لنا من إيراد بعض الأمثلة عما ورد في مقال "البطريرك"، لنثبت أن كاتب
المقال لا يمكن أن يكون بطريركا سريانيا وهو يعتبر القرّاء بهذه الغاية من
السذاجة الى حد السخف للقبول بإلغاء الهوية السريانية لصالح هوية أخرى، أو
بتبديل الهوية القومية كما تبدل القمصان (كي لا نقول شيئا آخر). كيف يمكن
أن يفتخر بعض العرب بالإنتماء الى "كنيستهم السريانية"، كما يقول، إن كانت
الهوية السريانية عربية؟ أفما كان الأولى بهم أن يفتخروا بكنيستهم العربية؟
ما السرياني في هذه الكنيسة غير هويتها القومية؟ هل الآرامية السريانية دين
أو مذهب أو طريقة لطهي الطعام؟ وإن لم تكن هوية قومية فلماذا هي لغة أيضا
إذن؟ من هو بربّكم وراء هذه المقالة المزعومة "بطريركية" إن لم تكن
التوتاليتارية البعثو-عروبية؟
أما السؤال الآخر فهو عن كلام كاتب المقال أن العرب اعترفوا بكل هؤلاء
(السريان والروم وغيرهم). فلماذا إذن لا يريد "البطريرك" أن يعترف العرب
بالسريان اليوم طالما أنهم اعترفوا بهم في السابق؟ هل لأن السريان أزيلوا
من الوجود؟ وفي هذه الحالة، على يد من أزيلوا؟
حاشا لنا أن نعلّم سيدنا البطريرك ما سيقول للبعثيين عندما يقصدونه شاحذين
منه مرسوما بطريركيا بإلغاء الآراميين السريان من التاريخ والسياسة
وإلقائهم في جوف العروبة، كما يحاولون فعله في العراق. ولكننا نقترح عليه
أن يحوّلهم على مؤرخينا أو مؤرخي العرب الذين يعرفون جيدا أن الآراميين
السريان هم أصحاب الأرض، وهي تحمل أسماء مدنها وقراها بلغتهم الى اليوم
(عفوا: بعضها ظل يحملها الى اليوم الذي زوّر فيه البعثيون هذه الأسماء
وحوّلوها الى عربية لكي يريحوا آذانهم من سماع حق أصحابها). وإذا تعذ ّر
على البطريرك ذلك لأسباب (إحتلالية دكتاتورية شوفينية بعثية) معروفة،
فنقترح عليه آنئذ أن يحوّل مقر بطريركيته الى مكان آخر يمكــّنه من ممارسة
سلطته الروحية دون تدخل سلطات دكتاتورية إلغائية، ونحن نعده أن نؤمـّن هذا
المكان في أي بلد يختاره، بمجرّد أن يطلب ذلك. ونعده أيضا أن هذا الإنتقال
لن يطول، فإن تغيير الشرق الأوسط على قدم وساق، وإن الحرية والسيادة للشعوب
وجهان لعملة ستروج في المستقبل القريب. ولا داعي للتذكير بأن هزيمة البعث
في لبنان هي نهاية لشيء ولكنها بداية لآخر.
http://www.annaharonline.com/htd/ADIAN050612-1.HTM
الاسلام والمسيحية: تكامل تاريخي في بناء الحضارة
العربية
البطريرك زكا الاول
عيواص
النهار 12/6/2005
عرّفت الحضارة بأنها "مجموع الخصائص الاجتماعية والدينية والخلقية
والتقنية
والعلمية والفنية الشائعة في شعب معين". والانسان ابن بيئته وصنيع
المكان والزمان؟
ويعتبر الموطن الاصلي للشعب العربي المسيحي والمسلم، شبه الجزيرة
العربية الواقعة
في جنوب غرب آسيا وهي قليلة المياه كثيرة الجبال والصخور، مجدبة
وغلب على سكانها
البداوة وقد فرضت عليهم طبيعة بلادهم المجدبة ان يربوا الابل وسائر
الانعام للسير
عليها والارتزاق منها. وكانوا يتنقلون من موضع الى آخر طلبا للكلأ
لأنعامهم. وتنقّل
بعضهم من بلد الى بلد للتجارة رغم وعورة الطرق، وهكذا خرجت جماعات
منهم الى العراق
وسوريا وسائر بلاد الهلال الخصيب.
واتصف العرب بالذكاء الفطري وظهر فيهم
شعراء مبدعون كانوا يتناشدون ما احدثوا من الشعر سنويا في سوق عكاظ
في الحجاز. وكان
مجتمعهم عشائريا، وقلما ارتبطت قبيلة بأخرى، الى ان وحّدهم الاسلام.
دخول
المسيحية الجزيرة العربية
ولم تكن احوالهم الدينية منظمة وكانت اغلب قبائلهم
وثنية صرفة.
ودخلت المسيحية الجزيرة العربية منذ القرن الاول للميلاد، وانتشرت
مع مرور الزمن انتشارا سريعا في عدد كبير من القبائل العربية عبر
بادية الشام
والعراق، كقبائل ربيعة وبني تغلب وبني كلب، كما تنصّر من اليمن طي
وبهراء وسليخ
وتنوخ وغسان وغيرها.
ومما عرقل انتشار الدين المسيحي في الجزيرة العربية
انقسام الكنيسة المسيحية على ذاتها والصراع العقائدي السقيم بين
ابنائها. وكان
المسيحيون العرب يتفاعلون مع الاحداث في مجتمعهم في الجزيرة
العربية. فاشتهر منهم
في اواخر القرن السادس واوائل السابع للميلاد قس بن ساعدة الايادي
اسقف نجران الذي
دعي حكيم العرب وخطيبها وشاعرها، وورقة بن نوفل بن اسد اسقف مكة.
وهو ابن عم خديجة
زوج الرسول العربي الكريم. وكانت مكة يومئذ مليئة بالمسيحيين، وكان
معظم نصارى مكة
واليمن ونجران من السريان. وكان عدد كبير من عرب نجران قد اضطهدهم
مسروق اليهودي
الذي يدعى ذو نؤاس في اوائل القرن السادس للميلاد محاولا اكراههم
بالوعد والوعيد
على اعتناق اليهودية فرفضوا فسامهم صنوف العذاب وحرقهم مع ملكهم
الحارث في اخدود
النار سنة 523. وهم الشهداء الحميريون اصحاب الاخدود.
وكان العرب الغساسنة في
سوريا قد شكلوا امارة مهمة، واسند قياصرة الروم الى امرائهم آل
جفنة عمالة سوريا،
فكانوا يحمون الحدود البيزنطية من هجمات القبائل العربية الموالية
للفرس، وكانوا
متمسكين بكنيستهم السريانية ويدافعون عن عقائدها.
حالة المسيحيين عند ظهور
الاسلام
وعندما ظهر الاسلام في اوائل القرن السابع للميلاد وجد المسيحيين
في
الشرق الاوسط منقسمين الى ثلاث فئات تعرف اليوم باسم الروم
الارثوذكس والسريان
الارثوذكس وابناء الكنيسة الشرقية اي الاثوريين، فاعترف الاسلام
بهم جميعا. وفي
معرض كلامي عن "الاسلام والمسيحية تكامل تاريخي في بناء الحضارة
العربية"، لا بد من
ان اتكلم على الكنيسة المسيحية بصورة عامة، وكنيستي السريانية
الارثوذكسية
بصورةخاصة لعلاقتها التاريخية المتميزة بالعرب والاسلام عبر الدهور.
عندما
انعقد مجمع خلقيدونية عام 451 وتبنت الدولة البيزنطية قراراته،
اثارت اضطهادات
عنيفة ضد رافضيها وفي مقدمتهم اتباع الكنيسة السريانية في سوريا
الطبيعية، فتحمل
آباؤها الروحيون من جراء ذلك صنوف العذاب من نفي وسجن وقتل،
واستشهد منهم عدد كبير.
ولئن تذرعت الحكومة البيزنطية باثارة الاضطهادات العنيفة على
السريان بحجة رفضهم
قبول قرارات مجمع خلقيدونية، ولكن الدافع الاول والاهم من وراء
محاولة ابادتهم كان
قمع الافكار التحررية، والوعي القومي الذي دب في صفوفهم وتولد في
قلوبهم من قسوة
المستعمر البيزنطي الذي سلب سوريا خيراتها الطبيعية.
ولم تنته اضطهادات
المملكة البيزنطية للكنيسة السريانية الا بظهور الاسلام حيث خرجت
موجة من الذين
دانوا به من الجزيرة العربية وحررت بلاد المشرق من حكم البيزنطيين
والفرس في النصف
الاول من القرن السابع للميلاد وكانت عوامل عديدة نفسية ودينية
واجتماعية وقومية
متوافرة لدى السريان سكان البلاد الاصليين لاستقبال اولئك العرب
المسلمين الذين
جاؤوا لتحرير البلاد من نير الحكم البيزنطي الظالم، ورحب السريان
بقدوم العرب
المسلمين الفاتحين واستقبلوهم كمحررين للبلاد خاصة وان معظم
القبائل العربية في
العراق وسوريا كانت دينا مسيحية على مذهب السريان، وايدت هذه
القبائل العرب
المسلمين الذين يمتون اليها بصلة الدم واللغة والتراث والحضارة
لذلك انضمت اغلبها
الى الجيش العربي المسلم تحت امرة المثنى بن حارثة الشيباني (ت
635) وخاصة قبائل
بني تغلب وعقيل وتنوخ وربيعة الضاربة في شمال العراق وغربه، فحاربت
جنبا الى جنب مع
العرب المسلمين وتم القضاء اولا على الدولة الفارسية سنة 651م
حينما فر (يزدجرد)
آخر ملوكهم الى ما وراء حدود بلاده.
يذكر التاريخ ان غلاما مسيحيا سريانيا
من بني تغلب قتل المرزبان مهران القائد الفارسي واست ولى على فرسه
اثناء احدى
المعارك التي دارت رحاها بين العرب والفرس وانشد الفتى قائلا: انا
الفتى التغلبي،
انا قتلت المرزبان. كما حرر العرب المسلمون سوريا وبقية بلاد الشرق
الاوسط من
الاستعمار البيزنطي، وتنفس السريان الصعداء وقالوا: "نحمد الله
الذي خلصنا من حكم
البيزنطيين الظالمين وجعلنا تحت حكم العرب المسلمين العادلين".
المسيحيون
تحت الحكم الاسلامي
بعد ان شارك المسيحيون اخوتهم المسلمين العرب في الحرب، مع
المحافظة على دينهم، وحرروا البلاد من المستعمرين، شاركوهم ايضا في
توطيد اركان
الدولة الجديدة. قال الفيكونت فيليب دي طرازي في كتابه "عصر
السريان الذهبي" ما
يأتي: "احتظى السريان بالثقة والاحترام عند الخلفاء الراشدين (632
– 661م) والخلفاء
الامويين (662 – 746م) والعباسيين (750 – 1258م) واول من نال
القربى لديهم حين
الفتح العربي هو منصور بن يوحنا السرياني الذي اصبح وزيرا للمالية
في عهد الخلفاء
الراشدين. اما ابنه سرجون فصار المستشار المالي للخليفة معاوية".
لا عجب من
ان العرب المسلمين قد اشتهروا بمحبة العلم، ومما برهن على ذلك
افتداء الاسرى
بالتعليم على اثر الانتصار الباهر الذي احرزه العرب المسلمون في
غزوة بدر الكبرى،
وكان اسرى قريش فئتين، فئة الاغنياء الذين افتداهم اهلهم بالمال،
وفئة الفقراء
الذين جعل المسلمون فداء كل واحد منهم أن يعلم القراءة والكتابة
لعشرة من صبيان
المدينة، الامر الذي سطّر للحضارة الاسلامية آيات الفخر. فلا غرو
من أن نرى الخلفاء
الراشدين والامويين والعباسيين العرب يكرّمون العلماء دون تمييز
بين مسلم ومسيحي
ويشجعونهم على نشر العلم والمعرفة.
وابتدأت هذه النهضة العلمية العربية على
عهد الامويين وامتدت وتقوّت على عهد العباسيين وساهم بها علماء
السريان وكتّابهم
بنقلهم الثقافة اليونانية الى السريانية ومنها الى العربية،
فعرّبوا كتب المنطق
والفلسفة والفلك والطب وغيرها، وتعمّقوا بدراستها وألّفوا فيها،
وأهم المترجمين
والعلماء يحيى بن عدي (974+) وابن زرعة عيسى أبو علي (1008+) وأبو
الخير الحسن بن
سوار ابن الخمّار واسحق بن زرعة (1056+) ويوحنا ابن ماسويه طبيب
البلاط العباسي من
أيام الرشيد حتى المتوكّل. وعمار البصري، وابن الطيب وايليا
النصيبيني وحنين بن
اسحق (808-873)، واسحق بن حنين (911)، وثاودورس أبو قرة (825+)
وقسطا بن لوقا
البعلبكي (820-912).
تشجيع من خلفاء المسلمين أسس المسيحيون المدارس العالية
في الاديرة وكانت هذه المدارس يتبعها مكتبات، فصارت منارات لشتى
العلوم والآداب،
التي نمت نمواً عظيماً لدى العرب. وهكذا بتعاون الاسلام والمسيحية
أضحت البلاد
العربية كعبة العلم والمعرفة في ذلك الزمان وعن طريق الاندلس نقلت
الحضارة العربية
الى الغرب.
وفي صدد تشجيع الخلفاء المسلمين العلماء والادباء والشعراء العرب
وتكريمهم دون تمييز بين مسلم ومسيحي نذكر على سبيل المثال الاخطل
الشاعر العربي
المشهور وهو من بني تغلب من ابناء الكنيسة السريانية الذي نال حظوة
لدى الخلفاء
الامويين ولقب بشاعر بني أمية حتى أن الخليفة عبد الملك بن مروان
(685-705) لدى
سماعه قصيدته (خف القطين) الذي مدحه فيها الاخطل قال له: ويحك يا
أخطل أتريد أن
أكتب الى الآفاق أنك أشعر العرب؟ قال أكتفي بقول أمير المؤمنين.
وفي ميدان
السياسة تعاون المسيحيون مع اخوتهم المسلمين في بناء الحضارة
العربية وشاركوهم في
الشؤون الادارية واستتباب الامن في الدولة نذكر هنا حادثة انتداب
المأمون الخليفة
العباسي (813-833م) البطريرك الانطاكي السرياني مار ديونيسيوس
التلمحري (845+)
للنهوض بمهمة سياسية في صعيد مصر لإخماد ثورة المسيحيين الاقباط
القاطنين هناك،
فذهب البطريرك ديونيسيوس الى مصر وتعاون مع مار يوساب بطريرك
الاسكندرية القبطي
الارثوذكسي في انجاز هذه المهمة.
وكان المسيحيون أمناء في خدمة الخلفاء
المسلمين، فشغل بعضهم وظائف مرموقة في الدولة، واستخدم بعضهم في
دواوين الدولة.
وكان بعضهم اطباء الخلفاء. نذكر على سبيل المثال لا الحصر الطبيب
الشهير أمين
الدولة أبو كرم صاعد بن توما البغدادي الذي قرّبه اليه الخليفة
الناصر
(1180-1225م)،
وأمّنه على جميع اسرار دولته وافراد عائلته، وكان صادقاً أميناً
للخليفة والوطن حتى الموت، فقد استشهد على يد بعض الذين كانوا قد
دأبوا على
الخيانة.
وضعفت الكنيسة المسيحية على أثر سقوط بغداد بيد المغول سنة 1258م،
وصار المغول مسلمين عام 1295 ولم يكونوا عادلين كالمسلمين العرب،
فقلّ عدد
المسيحيين هناك من جراء ظلم القائد المغولي تيمورلنك او تيمور
الاعرج (1336-1393)
الذي استولى على سوريا وبلاد ما بين النهرين وعمّت الضيقات وانتشرت
الاوبئة وعانى
العرب المسلمون والمسيحيون كثيراً في تلك الحقبة التاريخية على يد
هذا القائد
المسلم غير العربي، كما لم يراع العهود التي أعطيت للمسيحيين من
الرسول العربي
الكريم والخلفاء الراشدين والامويين والعباسيين بحمايتهم وصيانة
حقوقهم، بل هدر
دمهم وهدم كنائسهم وأديرتهم ومدارسهم وحرق مكتباتهم، ففقدت أغلب
مخطوطاتهم الثمينة
وهذا يعدّ خسارة فادحة ليس للحضارة العربية وحسب بل ايضاً للحضارة
الانسانية
العالمية.
وفي أوائل القرن الخامس عشر استولى العثمانيون على قسم كبير من
آسيا الصغرى. وفي نصف القرن الخامس عشر سقطت المملكة البيزنطية
بسقوط القسطنطينية
بيد العثمانيين سنة 1453. ولكن عاد التكامل الحضاري الاسلامي
المسيحي في القرن
الثامن عشر بالنهضة الحضارية العربية الادبية العلمية التي بدأت في
مصر بتعاون
الادباء والعلماء المسلمين والمسيحيين من سوريا ولبنان وامتدت الى
القرن التاسع عشر
والنصف الاول من القرن العشرين، الامر الذي انجلت فيه علائم
التكامل الحضاري
للاسلام والمسيحية وعانق الهلال الانجيل والانجيل الهلال، وتجسّد
الشعار القائل:
"الدين
لله والوطن للجميع" مما ساعد كثيراً في أغلب الدول العربية على
توطيد الوحدة
الوطنية والتخلص من الاحتلال الاجنبي.
إننا نحتاج اليوم كمسلمين ومسيحيين
الى بث الوعي القومي والاقتداء بالآباء الميامين الذين سفك دمهم
على أرض الوطن
العربي يوم حرروه من غاصبيه، وعبر الاجيال ذادوا عن حياضه وكان
المسلمون والمسيحيون
في خندق واحد، كما أنهم سعوا الى حماية الحضارة العربية وسلموها
الينا أمانة في
أعناقنا لنصونها كحدقة العين، ودمهم يجري في عروقنا فنحن شعب عربي
واحد، فلنوطد
الوحدة الوطنية في الوطن العربي كله لترفع راية العروبة عالياً.
ففي الوطن العربي
والمهجر نحتاج الى الوعي الذي يوحّد صفوفنا كالبنيان المرصوص يشدّ
بعضه بعضاً،
فكلنا أبناء هذا الوطن الواحد ونعبد الله الواحد الاحد. ولنعلّم
اولادنا ان الاسلام
والمسيحية تكامل تاريخي في بناء الحضارة العربية، وأن آباءنا
المسلمين والمسيحيين
بمحبتهم للعلم، ونشرهم اياه، وبأخلاقهم الحميدة المبنية على أسس
الدينين الساميين
المسيحية والاسلام نشروا الحضارة الحقيقية التي من أهم خصائصها
تهذيب أخلاق الانسان
لينشأ أميناً لله تعالى خالق الاكوان ومدبرها، ومحباً لوطنه العربي
أينما كان
متحلياً بالفضائل السامية في عالم اليوم الذي عمّ فيه الفساد
وانهيار الاخلاق
"وإنما
الأمم الاخلاق |
التنظيم الآرامي الديمقراطي
المكتب السياسي
|