في
ذكرى الإبادة الجماعية
للآراميين السريان في تركيا
قبل أكثر من 90 عاماً قامت السلطات التركية بحرب إبادة شعواء على
السكان الأصليين في ما يعرف اليوم بالجمهورية التركية، من آراميين
و يونانيين و أرمن،
أدت إلى استشهاد الملايين البريئة من أفراد هذه الشعوب وتشريد
ملايين أخرى في مختلف أصقاع المعمورة وسبي الألوف المؤلفة وإجبارها
على اعتناق الاسلام. وقد استعملت السلطات الحاكمة حينذاك جماعات
مختلفة من العصابات والعشائر الكردية، كحد لسيفها، للقضاء على
الوجود المسيحي الأصيل في البلاد، فاستغلت كلا الشعور الديني
الاسلامي المتزمت والشعور القومي المتطرف لإيغار الصدور وإثارة
الغرائز وإطلاق الأحقاد الدفينة من عقالها لتأخذ الهمجية والبربرية
الكاسحة ألواناً وأصنافاً من الوحشية اتخذ منها، حتى النازيون،
امثالاً طبقوها في محارقهم الفظيعة فيما بعد.
وإن تمعنا في اسباب هذه المجازر الفظيعة، نجد عاملاً تشترك فيه مع
مختلف حروب التطهير العرقي و الديني المعروفة على مر الأزمان
والعصور، ألا وهو رفض كل فكر أو عنصر مخالف والعمل على القضاء عليه
مهما كانت الظروف. فكما آمن هتلر بنقاوة العرق الآري وتفوقه وسموه
ورفعته ، هكذا آمن قومجيو الأتراك والأكراد بنقاوة عنصريهما
وتفوقهما، فقاموا بما يندى له الجبين وتقشعر له الأبدان وتشمئز منه
النفوس وترتعد لدى ذكره القلوب من أعمال تستنكف حتى وحوش الغاب عن
الإتيان بمثلها.
ولكن لم يكن ليكتب لهذا كله النجاح لولا عملية تزوير رهيبة للتاريخ
والحقائق وتصوير الآخرين كشر وشيطان مطلق، بالإضافة إلى غسل دماغ
العامة، وبالتالي تهيئتها نفسياً وذهنياً وإعدادها وبرمجتها بشكل
فعال بحيث تصبح جاهزة للقبول، بل والمشاركة، بأعمال لا يجرؤ مطلق
انسان يتحلى بأدنى درجات الأخلاق والوعي و الإنسانية على التفكير
بوقوعها، فكيف بتشجيعها ودعمها والاشتراك فيها.
وعلى هذا النمط سارت "الفتوحات" الاسلامية وعمليات "انتشار
وانتصار" القومية العربية، ومذابح النازية والفاشية وجرائم التطهير
العرقي في تيمور الشرقية و رواندا ويوغسلافيا السابقة والسودان،
وبهذا الشكل أيضاً تستر مجازر دارفور والكونغو والمذابح اليومية
المتكررة في العراق وباقي العمليات الإرهابية و"الاستشهادية"..
والقائمة تطول تطول، دُونت بدماء أطفال ورجال وشيوخ ونساء أبرياء
عزل، ودموع ثكالى وأرامل وتأوهات واستغاثات جرحى ومصابين وتضرعات
نازحين من بيوتهم وديارهم اقتلعوا، وفي أوطانهم الأم ومختلف أنحاء
المعمورة ومخيمات اللاجئين شُردوا.
إن عقلية إلغاء الآخر وإقصائه لا تزال مسيطرة على كثير من
الايديولوجيات والأفكار والعقائد السائدة في الشرق الأوسط. وفي
تركيا اليوم توجد دلائل مثيرة للقلق تجعلنا نطرح العديد من الأسئلة
ونرسم أكثر من اشارات استفهام. فحملات بعض ممثلي الحكومة على
جمعيات التبشير المسيحية، وازدياد نفوذ مدارس الأئمة بشكل واضح
والبدء تدريجياً بأسلمة القوانين والمناهج التدريسية منذ تسلم
الحكومة الحالية زمام السلطة، خلق جواً تحريضياً ازدادت حدته في
الفترة الأخيرة وبلغ ذروته بعملية اغتيال الصحفي الأرمني المعروف
هرانت دينك وجريمة القتل البشعة التي أودت بحياة ثلاثة من موظفي
إحدى دور النشر المسيحية في مدينة ملاطيا. فتركيا هي الدولة
الاسلامية التي احتلت، وبامتياز "مركز السبق" فيما يتعلق بإبادة
غير المسلمين، وخصوصاً المسيحيين منهم، بحيث لم يعودوا يشكلوا إلا
نقطة وسط بحر اسلامي متطرف هائج في كثير الأحيان. ويبدو أن حتى هذه
النقطة محكوم عليها بالزوال، إذا ما استمر عليه الأمر على هذا
المنوال!
أما الحل فهو إقصاء فكرة التفوق، والقبول بالآخر والاعتراف به
عوضاً عن محاولة إلغائه، وتبني التعددية الدينية والقومية واللغوية
والثقافية والحضارية مبدأ ومنهجاً متأصلاً في النفوس والنصوص على
حد سواء، وهو أمر بدأت اصوات مسلمة عاقلة بالمناداة به والدعوة
إليه، ولو أن لعلعة الرصاص ودويّ القنابل وصدى حناجر القومجيين
وقعقعة المتطرفين الاسلامويين في كثير من المحطات التلفزيونية
الرسمية والفضائية لا زالت غالبة.
إنه لمن العار فعلاً أن تستمر تركيا على
عنادها وفي إصرارها على الإنكار وعلى عدم الاعتراف بقيامها بحملات
التطهير العرقي والديني بحق الشعوب المسيحية، ومن بينها شعبنا
الآرامي ، على الرغم من الاثباتات الدامغة شهادات الناجين
والدبلوماسيين وشهود عيان تلك الفترة المشؤومة. ومن العار أيضاً
على بعض دول العالم الحر وممثليها الاستهانة بما جرى واطلاق صفات
مخففة مثل "تراجيديا" نفاقاً وتزلفاً خشية على بعض المصالح الآنية
الضيقة، عوضاً عن استخدام القنوات الديبلوماسية ومحاولة ضمّ تركيا
للاتحاد الاوربي وسيلة للضغط عليها للاعتراف - أسوة بالمانيا التي
اعترفت بما اقترفته من جرائم اثناء الحقبة النازية والتي قامت، ولا
تزال تقوم، بواجباتها القانونية والمادية والاخلاقية تجاه ضحايا
المحرقة.
و إن ننس فلا ننسى الطوابير
الخامسة من بعض منظمات شعبنا و الجالسين على الكراسي التي "ناضلت"
و تاجرت بالقضية مستغلة حماس الشباب و اندفاعهم، لترتمي بين ليلة و
ضحاها، دون ذرة خجل أو حياء، في أحضان السلطات التركية متنكرين
لدماء الشهداء و لمبادئ نبيلة باعوها بأبخس الاثمان.
من ناحية أخرى لا بد من الثناء على بعض
الأصوات العاقلة والمنظمات والأحزاب الكردية المعتدلة التي أعلنت
عن اعترافها بمشاركة عصابات وجماعات كردية متطرفة في حروب الإبادة
تلك، وكذلك على بعض العلماء والمؤرخين والمثقفين الأتراك أنفسهم،
الذين أجروا أبحاثاً ودراسات وقدّموا، على الرغم من المضايقات
والتهديدات والملاحقات وسيف إرهاب الدولة الفكري المسلط عليهم، من
الاثباتات العلمية والتاريخية الدامغة ما يقطع الشك باليقين على
اقتراف تركيا لهذه المجازر الوحشية.
والأَولى بالعالم الاسلامي، وبشكل خاص، مؤتمر القمة الاسلامي
القيام بعملية مراجعة شاملة ونقد ذاتي والاعتراف بجميع الاخطاء
والسياسات القمعية والاعمال الاجرامية والارهابية وحروب الابادة
التي وقعت، ولا تزال تجري، بحق الأقليات العرقية والدينية والشعوب
الأصلية فيه. كما يجب على هذا المؤتمر التراجع عن قراره المشؤوم في
اجتماعه الشهير في لاهور في الباكستان عام 1979، والذي أكد على
ضرورة أسلمة المنطقة بشكل تام والاعتذار عما جرّه ذلك من ويلات
وكوارث ومآس على شعوب المنطقة، وخاصة غير المسلمة منها، والعالم
بشكل عام.
الجدير ذكره أن تركيا كانت الدولة العضوة الوحيدة التي أبدت تحفظها
حيال ذلك القرار المشؤوم، وكأن لسان حالها كان يقول: لا تزاودنّ
علينا، فنحن قمنا بمثل هذا، بل بأعظم منه، قبل ولادة ممالككم
وجمهورياتكم و"جملكياتكم" وإماراتكم، وحتى قبل أن يرى مؤتمركم
الموقر هذا، النور بزمن ليس بقصير!