عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

                           

                    صبري يوسف

                       كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم

 


(أواهٍ .. ما هذا الانشطار؟!) ..

أيّها الأحبّة القرّاء والقارئات:

أقدّم لكم كلمة مقتضبة للشاعر د. الأب يوسف سعيد، المنشورة على ظهر غلاف الديوان، ثم يليها القصيدة الأولى.

ذاكرتي مفروشة بالبكاء

د. الأب يوسف سعيد

ذاكرتي مفروشة بالبكاء،

عنوان ديوان جديد للشاعر صبري يوسف. كأنَّ عنوانه مُنْبَعِث من حفيف طير البَلَشون الخرافي .. يشعلُ النارَ في غابات نور قصائده، ومن كرِّ السنين يحبكُ ضفيرة أعوامه من تراكمات الجراح النازفة من جنبات غربة أيّامه وشهوره ولياليه ..

إنّه الشاعر المتمرِّد، المتحدّي بعنف شرور ومشاكسات عصره، وعندما تحاوره بعنف، يجيبكَ بهدوء: تَمَهَّلْ قليلاً لأنَّ روحي متجلّية، تُحبِكُ خيوط قصيدة جديدة "حكايتي أسطورة مؤطَّرة بالطين!".

الطين يحيقُ به، يحاصره بوداد، يكاد أن يخنقه. أَليسَتْ عوالمه السفليّة، جدرانها مُسيّعة ومُشَبَّعة بطينٍ أحمر؟! .. وتبدو تَشبُّعات الطين واضحةً في قصائده، وتلكَ تُعَدُّ إحدى حيثيات طقوسه وأساطيره في تحدّيه وتمرُّده لاعوجاجات هذا الزمان!

غداً في أوسع قاعات المدينة العاصمة، يفتتح صبري يوسف معرضاً لقصائده، وسيقرأُ لنا قصيدته البكر "أين سترسو سفينتي؟!" .. يسألُ وكأنَّنا نحن قرّاؤه نسأله، فيجيبنا بلغةِ عصيانه وتمرّده على خلخلات علاقات الإنسان مع الإنسان!

إنَّه الشاعر الصادق الَّذي يمارس طقوسه الإبداعية، محفوفة بطاقة جريئة من جسارته واقتحاماته النادرة لتجسيد البقع الحمراء الْمُتَشَرْشِرَة من جسَدِ الكون .. وسوف يتردَّدُ في أعماق الوادي، صدى الحنين إلى أوطان شعره ومُتَّكآت الحنين في زوايا جنبات وطنه ومسقط رأسه الَّذي يقتله من فرط ظمَئِهِ وشوقه إليه.

دعوه، كشاعرٍ متمرِّد في غرفةِ صمتِهِ، ينسجُ من خيالات صافية أشواق روحهِ إلى عبقِ الحياة. دعوه في صمتِ وحدتهِ مع موسيقاه، يتحدَّى شرور هذا العالم! ..دعوه يغلي في ثورتهِ الهائجة .. أَليسَتْ أسلحتهُ المتطوِّرة من كلمات شعريّة، يُركِّبُ منها زناد منجنيقاته، راغباً إعادة البسمة إلى شفاهِ الأطفال؟!

أَليسَ العالم يُسْمِعُهُ صدى تردُّد قهقهاته وسخريته؟ .. صبري يوسف يكتب القصيدة كطفلٍ في أوجِ كركرات ضحكته الصافية، صفاء الفجرِ الوليد!

الشاعر صبري يوسف، طفل الشعر المسجون اختياريّاً في غرفته المشلوحة على إحدى أحياء العاصمة ـ ستوكهولم. كأنَّه صبي صغير يُحرِّكُ الدمى الّتي يسامرها ويركِّبُ منها بيوتاً ودهاليز .. وعندما يغيب عنّا، يعود إلينا بعد حين، حاملاً بين يديهِ طائرَ البَلَشون، ليتركهُ يحمل أشعارَهُ بين جناحيه مُحَلِّقاً في قبّةِ السماء! 

 سودرتاليا: ربيع 2000

أواهٍ ما هذا الإنشطار؟!

          1

غَرِقَتِ السُفُنُ الَّتي أبحَرْتُ فيها

تَعلو أحزاني جبَالَ ( الآنديز ) ..

إلى متى سَتَسْبَحُ يا قلبي

     في صحارٍ مُكْتظَّة بالشَّوك؟

ما كنتُ أظنُّ يوماً

أنَّ قلبي سيشتعلُ

     اِشتعالاً حَارقاً

     عندَ هبوطِ الليل! ..

ماكنتُ أظنُّ يوماً

أنَّ روحي ستنشطرُ

     كاِنشطارات

          مفارقَ غربتي!

لِمَنْ أكتُبُ القصائد؟

أأكتبُ القصائدَ لبيتيَ العتيق

     أم للوالدِ العجوز؟

أأكتبُ القصائدَ

     لشاهداتِ القبور

أمْ للحاراتِ العتيقة؟

لِمَنْ أكتُبُ القصائد؟

 

إليكَ أيّها الشَّعْبُ الْمُشَرْذَم

أيّها الشَّعْبُ الْمُشَرَّد

أيُّها الْمُبَعّثَر في وجهِ الدنيا ..

أيُّهَا الإنسان ..

إليكَ سأكتبُ القصائد!

مِنْ ( آزِخ ) إلى (ديريك) ..

ومِنْ ديريك إلى (نورشوبينغ)

     إلى ستوكهولم

     إلى واحاتِ الضباب!

مِنَ الْمَوصل إلى لبنان ..

ثمَّ الرحيل عبرَ

     المنافي البعيدة ..

مِنَ الْقامشلي إلى (سودرتاليا) ..

     إلى ألمانيا

     إلى سُويسرة

     إلى بلجيكا

     إلى هولّندة

     إلى كندا

     إلى شيكاغو ..

إلى بلادِ الله الواسعة!

 

مِنْ هُناك!

مِنْ (طور عبدين)

     إلى حيثُ الضّياع

     وسط أخطبوط الغربة!

كفانا تَشَرْذُماً

     يا قلبي

كفانا ضياعاً

نلهثُ

     خلفَ السراب ..

كفانا تفنُّناً

     في أساليبِ الضَّياع!

متى ستنطفئُ اشتعالات الرُّوح؟

متى ستضيءُ قناديل اللقاء؟

أتساءِلُ بمرارةٍ حارقة

هل ثمَّةَ لقاءٌ يلوحُ في الأفُقِ؟

يؤلمني جدَّاً

أن نُشَرِّدَ ذاتَنَا بذاتِنَا! ..

أينَ تصبُّ رؤانا .. مناهجنا؟

أهمسُ بحسرةٍ

إنَّها تصبُّ بمهارةٍ يائسة

     في الطّين! ..

لِماذا تحترِقُ أجنحةَ

     شبابنا وشابّاتنا

متوغِّلةً

     في بوّاباتِ الإنقسام؟! 

آهٍ .. غَرِقَتِ السُّفُنُ

     الَّتي أبحرْتُ فيها ..

تعلو أحزاني

     جبالَ الآنديز ..

أيُّها الْمُبَعثرونَ في بِقاعِ الدنيا

     كحبّاتِ القمح!

مِنْ هنا ..

مِنْ سماواتِ غُربتي الطَّويلة

أردِّدُ بصوتٍ مبحوح ..

إنّنا نعيشُ زمناً

     ولا كلَّ الأزمنة!

إنَّهُ زمنُ الآهات

زمنُ الاشتعال

زمنُ العبور

     في سراديبِ الضَّياع!

أيّها الإنسان

لِماذا تنهشُ أخيكَ الإنسان؟

لِماذا تزدادُ عُبُوراً

     في متاهاتِ الحياة؟

لِماذا لا تُزيِّنُ

     وجْهَ الضُّحى

          بالضياء؟

لِماذا لا تَنْثُرُ بذورَ الحبِّ

     في سفوحِ الكون؟

آهٍ .. إنِّي أبحَثُ عن بلسمٍ

     يشفي جِراحَ الكون ..

     يشفي غليلَ الرُّوح!

كفانا يا قلبي اِنشطاراً

كفانا نَسبحُ في بُرَكِ الدَّم

كفانا اِنغماساً

     في براكينَ الحروب؟

كفانا يا روحي اقتتالاً

كفانا نزأرُ في وجهِ اللقاء

كفانا غوصاً

     في دياجيرِ الظَّلام! ..

نحنُ بشرٌ ياقلبي

لِمَ لا يعشقُ البشرَ البشرُ

هيهاتَ لو عشقنا بعضنا بعضاً

     وكنَّا في خندقِ الحبِّ خفرُ

          هيهاتَ يا قلبي!!

ستوكهولم: 22 . 05 . 1995

 

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها