الشِّعر رحلةُ عناقٍ مع العشب البرّي
الشِّعر صديق غربتي الفسيحة، وهجٌ منبعثٌ من نداوة الرُّوح، بحيرة
حنان آمنة على مرّ الأيام والشهور والسنين، براعم مزنّرة فوق قبابِ
الحلم، وحده الشعر قادر على السباحة عبر السديم، عبر العواصف، عبر النسيم
العليل، الشعر صديق البلابل والزهور البرّية، صديق عاشقة من ضوء منبعثة
من زرقة السماء، الشعر وحبق العشق توأمان، الشعر أسبق من اللغة، صديق
منصهر بخبايا اللغة، وسيبقى بعد رحيل اللغة لأنه ينبع من خصوبة الحياة،
هو الحياة بعينها! ..
يمنح الشاعر الحياة رحيق عمره، راغباً أن يزيّن وجه الضحى
بالياسمين، يحاول دائماً أن يغسل عذابات الطفولة بدموع القصائد المتناثرة
من خاصرة السماء، يمسح أحزان الكهول، عابراً مخابئ الهموم ليلملم أنيناً
مندلقاً من ضجر الأيام ويبدّده بين تلافيف الريح، يمسك محبرته متحدِّياً
اعوجاجات هذا الزمان، محاولاً إعادة صياغات البسمة على وجنة الليل،
دائماً في عراكٍ مع ذاته المندلعة بنيران طغاة هذا العالم، وحده الشعر
يمنح نشوة ولادات القصائد، يحلّق عالياً كنسرٍ قويّ الجناحين، مرفرفاً في
قبّة السماء، يعانق نجمةً متلألئة كلون الفرح!
الشعر هو بوّابة خصبة، غنيّة أبهى من اخضرار الربيع، الشعر ترتيلةُ
حبٍّ تنشدها فيروز، إيقاع متصالب مع بهجة الطبيعة، وتغريد البلابل في عزّ
الربيع، الشعر حلمٌ منعش مفتوح على أغصانِ العاشقة، سديمٌ معطَّر
بالبخور، قنديلٌ مصهور من خلاصة العسل البرّي، يضيء برزخ الروح، الشعر
حركةُ باشق محلّق فوق خمائلِ النجوم، صلاةُ ناسكٍ منعزلٍ في كهفٍ طافحٍ
بالانتعاش، عطشٌ أزليّ لا يروي ظمأ القلب ..الشعر يزيدُ جموح العاشقة
توقاً لإرواء غليل الحنين إلى شهوة الارتقاء! .. الشعر حالة قلقٍ
متشظِّية من زخّات المطر.. هاطلة من عيون السحاب على غبطةِ المكان! ..
هاجسُ وردة معطّرة بالطلِّ، تريدُ أن تباركَ خصوبة الأرض!
الشعر صديق راقصات الباليه وحبق موسيقى البحر المنبعثة من هسيس
كائنات مشتعلة بالشوق على إيقاعات هداهد العشق! .. الشعر لغة مفهرسة
بعذوبة السماء، بنكهة النّعناع المنثور حول قبّة المحبّة، حالة انتعاشٍ
نحو الأعالي، لمعانقة نقاوة عبق اللَّيل، الشعر نداء وردة محشورة بين
أنياب الضواري، تريدُ الخلاص من خشونة الرياح! .. مغامرة عاشقٍ للغوص في
أعماقِ البحار، لإنتشال عاشقة من لونِ المحار! .. الشعر صديق وحدتي ..
حالة انتشاءٍ في دنيا من ضجر!
الشعر كائنٌ بريء لأنّه يولد من رحاب الطفولة، صديق الكائنات كلَّ
الكائنات، ..يتداخل مع خيوط العمر من أجل أن يمنح القلب خصوبة الحياة،
ومضة فرحٍ فوق قبّة الأحزان، بركةٌ هاطلة من خدود الشمس، صديق روحي
المتدفّقة فوق أغصان الصباح! .. رحيق الميلاد .. غابة خضراء تحطّ كالنسيم
على أكتاف الطفولة، الشعر واحة مرحِّبة بأنين القلوب المكلومة .. لتبلسم
جراحات الليل والنهار، يتعانق الشعر مع جموحِ العقل والروح وبهجة
الإنتشاء!.. الشعر توأم الروح .. جمرة مشتعلة في حدائق الأحلام لتضيء
بهجة العمر على أنغام اخضرار أنشودة الحياة!
لا أظنُّ يا صديقتي أنَّكِ تهربين من الشعرِ، ولا أظنُّ أنَّ الشعرَ
يهرب منكِ أو إليكِ ، أنتِ والشعر يا عزيزتي صديقان متعانقان إلى حدِّ
الاسراف، تتوهين أحياناً عن فراديس الشعر، عابرةً أحزان الروح، ململمةً
جراحات الأيام والشهور والسنين، لا تصدِّقينَ أنّكِ أنتِ التي عبرتِ
محطّات عمركِ المبعثرة حزناً إلى حدِّ السبات، إلى حدِّ النوم تحت عجلات
آلام هذا الزمان، ألم يخالجكِ أحياناً كثيرة أنتِ لستِ أنتِ؟! .. أنَّكِ
أنَّاتٌ على خارطةٍ من بكاء! .. أن تكوني أنثى من هناك، يعني أنَّكِ
مُتخمة بأحزان الصباح، متشظّية بأحزان الليل والنهار! .. أن تكوني أنثى
من لون الربيع، في زمنٍ من رماد، فلا بدَّ أن يقطعوا جلاوزة العصر أوتار
صوتكِ، وتسافرين عبر مدنٍ أكلتها الريح وجرفتها أعاصير الحلم في دنيا
تتعانق فيها الكوابيس!..
حنجرتكِ غير متخمة بالاوجاع فقط، بل مبرعمة أيضاً بأشواكٍ لا تخطر على
بال، مبرعمة بأنهارٍ من الحنظل!
نتصافح فوق أجنحة الغربة والمسافات، فوق أجنحة النسيم، فوق
أجنحة الحياة، فوق أعاصير المحبّة، فوق دياجير الشوق إلى روحٍ تتلظّى من
غدر هذا الزمان! .. إلى أصابعٍ مرتعشة وهي تخطُّ أحرفاً من بكاء، من دموع
الأطفال والنساء والأشجار! .. أشجارنا تبكي يا صديقتي، وروحي هائمة شوقاً
إلى أنشودة الحياة، غائصٌ الآن في كتابة نصٍّ مفتوح على فضاء الذاكرة
المتصالبة مع غربة الإنسان مع أخيه الإنسان في هذا الزمن الأحمق! .. نصٌّ
مندلقٌ من خاصرة الروح، جرفني معه في وهادٍ لا تخطر على بال الجنّ! آه ..
يا عزيزتي، أنا القائل، "كم من الدموع حتّى هاجَت البحار!" .. قلبٌ
متجذِّرٌ في دنيا من بكاء، ابن المسافات وأحزان الدنيا!
هل استيقظتِ يوماً واستنشقتِ وردةً ملء روحكِ؟ هل احتضنْتِ نجمةً
وأنتِ غارقة في سماوات الحلمِ؟!.. هل عانقتِ حلماً من لون العصافير، من
لون الفراشات، من لون الماء الزلال؟ .. هل أنتِ معي أم أنَّكِ شاردة،
تلوذين الفرار من خفافيش الليل؟
آهٍ .. حتّى أحلامنا مهشّمة من خشونة الطوفان الهاطل على قباب
القلب من كلِّ الجهات، إنّه زمن الشعر يا صديقتي، الشعر هو ملاذنا
الفسيح، هو كهفٌ آمنٌ بعيدٌ عن مرمى صولجانات هذا الزمان، واحةٌ مكلّلة
بالندى تبعث في أعماقنا أهزوجة الحياة، الشعر يبلسم جراحنا الغائرة،
صديقنا الحنون، غابةٌ مكتنـزة بالنرجس البرّي، الشعر حكمةٌ منشطرة من
ذيلِ نيزكٍ على وجه الليل، بركة هاطلة من رحيق الغمام، مطرٌ متدفِّق من
رحم السماء، قبلة شمسٍ في صباحٍ باكر، الشعر رذاذات تبرٍ صافٍ، أمواجٌ
مرتسمة على بسمة الطفولة، رحلة فرحٍ على أكتاف المساء!
بعد قرنٍ أو قرون سيأتي شعراء يقودون هذا العالم، فشلت سياسات
العالم، وفشلَت قيادات العالم بقيادة الكون، الشعر سيعيد صياغات هذا
العالم إلى جادة الصواب، الشعر صديق النوارس والبحار، صديق الأرض
والسماء، صديق الروح الجريحة، ماءٌ زلال يسقي قلوباً عطشى، الشعر بوّابةُ
فرحٍ مفتوحة على أعشاب الجنّة، يتطاير من جناحيه وهج المحبّة، طفولةٌ
مزنّرة بورودٍ متفتّحة حول سهول القلب، غذاء الروح، الشعر يطمس اليباس
ويبدِّد المساحات القاحلة من الجسد، الشعر رحلةُ عناقٍ مع العشب البرّي ،
الشعر درّةٌ ثمينة في قاع البحار، يلتقطها الشاعر بذبذبات روحه ليقدِّمها
إلى عاشقة من ضوء! لا تبكَي كثيراً يا صديقتي، من هنا أرى دموعَ فرحٍ،
دموعَ شوقٍ إلى حنان الليل ، إلى صديقٍ منبعث من وهَجِ الإنكسار، أرى
ومضةَ عينيكِ ، بسمةَ روحكِ، أوّلَ مرّة أرى بسمة الروح، بسمةٌ متطايرة
من نسيمٍ نديٍّ، بسمةٌ طافحة بالعذوبة، بسمةٌ منعشة كتغريدِ البلابل،
بسمة مسربلة مع دموع الأطفال وهم يعانقون أمهاتهم قبل أن يناموا في أحضان
قبلة الصباح، غاليتي لا تقولي أهرب من الشعر، انّنا يا صديقتي نهرب
أحيانا من ذواتنا، لكنَّ ذواتنا المفهرسة في ينابيع الشعر تلاحقنا أينما
حللنا وأينما رحلنا، تدغدغ شواطئ الينابيع ، فيهتاج حبق الشعر فنكتب
بانتعاشٍ ما تمليه علينا خصوبة الروح، نرحل وتبقى نصوصنا متربِّعة على
جدار الزمن كأنشودةِ الحياة ..
"صديقتي!
..
ويبقى الشَّوقُ إلى محيّاكِ
قصيدةً معلّقةً
بينَ أحضانِ اللَّيل!! |