مريم القس من فصيلة
البحر
إهداء:
إلى روح الراحلة الفاضلة مريم القس كبرو
لم
يعدْ للبكاءِ مطرحٌ في سماء غربتي، وحيداً أستقبل رحيلَ الأحبّةِ، تنهض
طفولتي
راسمةً فوق شهقة الرُّوح حسرةً، طفولتي المتلألئة بعناقيد العنبِ، طفولةٌ
مسترخية
تحتَ أغصانِ الدَّوالي، تقفز صورة أمّي كومضةِ البرقِ متربِّعةً في أقصى قطبِ
الشِّمال يتاخمها شموخ الرَّاحلة الفاضلة مريم القسّ، بكلِّ عنفوانها تهمس في
أذن
أمّي، مشيرةً إليَّ وأنا كنتُ ألملم عناقيد العنب وأفرشها فوقَ وجنةِ الحلمِ،
تهزّ
رأسها مبتسمة إليّ، طفلٌ مفروش الجناحين على أغصانِ الدَّوالي، تغدق عليَّ
بسمة
مضمَّخة بعنفوان الفرح والعمل على أجراسِ المحبة، تمشي مزهوّةً وكأنها من
فصيلة
البحر ونسائم الجبال، تحمل سلال العنب قبل أن يشقَّ الشَّفق جبين الصَّباح،
تقمِّطُ
أولادها بقميصِ المحبّة، يترعرعون بشموخٍ كأشجارِ السّنديان، تنهض باكراً على
إيقاع
المناجل، كانت نجمة الصَّباح شاهدة على عبورها عوالم الفرح والحصاد، صورُ
المروج
وكرومِ العنبِ تسترخي بلذَّةٍ منعشة فوق مسامات حلمي، صورٌ من بهاء ديريك
تسطع
أمامي الآن، تنانير زوجة عمّي، الراحلة بهية شمعون عيسكو، تزدهي الآن في
ساحةِ حزني
وتموجات غربتي، صورة أختي كريمة وهي تغزل بمغزلها الرفيع محراماً مزركشاً
بالورود
والصلبنان، ترسم الورود بدقة ولا دقَّةَ القصائدِ، وحده قلمي ينتشلني من
مغبّة
الانزلاقِ في وجع الحنين إلى سماءِ ديريك، مندهشٌ إلى حدٍّ الانبهارِ كيف
تمكّنتُ
أن
أغيب عن مسقط رأسي كلّ هذه السّنين، وأحبائي يرحلون عاماً بعد عام وأنا
مشرَّدٌ
في
دنيا من بكاء، اليوم تأكّدت أن تكلُّسات لا حصر لها طاغية فوق جذورِ
الرُّوحِ،
تكلُّسات فوق مرافئ الذَّاكرة، غربتي نارٌ مشتعلة ليل نهار وأنا حلمٌ مفروش
الجناحين فوق شهوةِ القصيدة، وحدها القصيدة تلملم حزني وتنقذني من براكين
الأنين،
يؤلمني جدّاً أنني سأعيش بضعة سنوات قد تطول أو تقصر وأرحل قبل أن أتمم
أنشودتي
المبلسمة بنكهةِ السَّنابل، قصيدتي تحتاج قروناً من الزَّمان ولا أظنني سأعيش
قروناً، الموت صديقي الملتحم في شهيقي ليل نهار، لا يقلقني الموت ولا يخيفني
الموت
ولا يهزُّ شعرةً من فروةِ الرُّوح، وحدها قصيدتي تقلقني لأنني أشعر بتقصير
غريب
تجاه هفهفات أغصانها المتلاطمة مثل حنين روحي إلى سماء ديريك!
اليوم، اليوم
تأكّدت أنني إنسان غير عادي، غير عادي على الاطلاق، ومتى كنتُ عادياً! ربّما
لا
عاديتي هي التي قادتني إلى مرافئ القلمِ، إلى هذه العزلة اللَّذيذة المميتة،
عزلة
محفوفة بالشِّعرِ ولوحات العشق والقصِّ والسرد وشهقات الحنين إلى أزقَّتي
المتغلغلة
في
بسمةِ الحلم، غالباً ما أنهض من نومي وأنا في عراك مع نفسي، أعاتب نفسي،
أشرشح
نفسي، لكني سرعان ما أعود إلى قلمي وأنسى كلَّ الشَّرشحات والمنغِّصات التي
تحيق
بي، تزلزلني أحلامي، وتتراقص التساؤلات فوق خيوطِ الصَّباح، كيف لا أخصِّص
مساحةً
لألعابِ الطُّفولةِ، لديريك حيث حبق الأهل يملأ أجواءَ المكانِ، كيف أعتكفت
سنيناً
بعيداً عن سلالِ العنب، بعيداً عن قبر أمي، عن قامة مريم القس كبرو،
الشَّامخة مثل
نعمة السَّنابل، مريم القس قصيدةُ فرحٍ متناثرة فوق نضارة ديريك، صديقة
المروج
وأكوامِ الحنطة، زهرة معبّقة بحفيفِ الموجِ، يندلق من أغصانها العسل البرّي،
أنجبت
أزاهير معفّرة بنسيم الصباح، آشور، صوت الريح الآتي من أعالي الجبال، كارو
عنفوانٌ
محفوف بجموحِ البحر، صليبا غربة مكتزة بالحنين إلى ربوع ديريك، صامو بسمة
عناقٍ
منبعثة من طراوةِ السنابل، أسامة، حفيدٌ توشّح حفل زفافه برقصٍ مفتوح على
بساتين
الجنّة، عودوا إلى حفلة الزفاف، ستجدون عصفوراً متطايراً من أسوار السماء،
يرقص على
إيقاع نكهة التين، فجأةً أجدني أمام غابة من الفرح، تتماوج روحها كأنها موشور
مطرٍ
تناثر فوق وجنةِ القصيدة، ترقص مقلدةً تماوجات فرحي، تدخل البهجة إلى قلوب
الأحبة،
قهقهات ملأت قلوب الاخوة والاخوات والاحفاد، ما كنتُ إلى حينها أعلم أن هذه
المتمايلة مثل موجاتِ البحر منبعثة من شهقة فرحٍ من أفراح الراحلة مريم القس،
شاهدت
صخب الفرح والضحك وتوازنات شوق القصيدة ينضح من ينابيعِ الأفراحِ، عندما أفرح
أبحثُ
عن
خيوط القصيدة، لم أكتب قصيدة في حياتي تضاهي عذوبة تجليات الرقص وعلى يميني
صامو
القس أبو أسامة تتلألأ بسمته وضحكته تتجلجل مع ضحكة آشور فيشكلون دائرة منعشة
حولي
وحول وردة منبعثة من شموخ جبال بهجةِ الحياة، يسطع أمامي أصدقاء الطُّفولة
والشّبابِ والحصادِ، اليوم وبعد غربة فسيحة، تاكَّدتُ أنني لا أختلف عن نسمةٍ
تائهة
في
وجه الرِّيح، قصيدة متراقصة فوق بحيرات ستوكهولم، وجعٌ عميق الغور، حرفٌ
منقوش
فوقَ خدود نجمة، سنبلة مضمَّخة بلهيبِ الشَّوقِ، منذ فترة وجيزة كتبتُ قصة عن
"حيصة"
وسلال العنب، وحيصة هي دابّتنا التي كانت تحمل سلال العنب في صباحات تموز
الباكرة، قصة طريفة تفرش عوالم طفولتي، لم أنشرها بعد، لأنها تهفو إلى صفحات
ربوع
الكونِ، إلى صحيفة من لون نسائم جبل جودي،
يرتسم شارع المشوار أمامي الآن، أكاد
أن
أتلمّس أحجاره وأشجاره العطشى.
مرحباً أبو الكَار.
أهلين وسهلين
بالشباب، يجيب كارو، هذا الوجه المكحّل بعنفوان غير معهود، نشقُّ الطَّريق
فرحاً،
لا
نحمل همّاً سوى هموم المقرَّرات السَّميكة، ما هذه الفجيعة التي فجعتُ بها
نفسي،
أعيد امتحانات الثانوية وأخوض امتحانات جامعية لها أوَّل وليس لها آخر، أنا
الذي
يهوى عبور براري الفرح والرقص والغناء والموسيقى والعشقِ التائه بين أرخبيلات
اللَّيل، متى سأعيد مقررات علم النفس وعلم الاجتماع والبحوث الاجتماعية،
مقررات
تكسر الظهر وأنا كنتُ وما أزال نحيل الظهر، بنية لا تصلح إلا للقلم ومع هذا
كنتُ
أثبّت أقدامي الصغيرة تحتَ سلالِ العنب وأنا صغير، لو علمَتْ منظمات حقوق
الطفل في
أوربا أنني كنتُ أرزح رغم نحافتي تحت سلال العنب لاشتكتْ على والدي لأنه كان
يزجَّني في معمعانات قطْف عنب "البحدو والداركفنار والمسبّق والبلبزيكي
والزينبي
والمظرونة وبيظ الحمام"، لكن لا أظن أنه كان سيقف مكتوف الأيدي أمام منظَّمات
حقوق
الطفل، فمن المؤكّد أنه كان سيرفع "كوباله"، دفاعاً عن الفلاحة وجني عناقيد
العنب
وباقات الحنطة، ثم أن مبرراته كانت لا تحصى ناهيك عن أنه شدّد قبضته على
فدّان
الفلاحة وهو في الثالثة عشرة من عمره، فكيف ستقنعه هيئات الكون على تغيير
رأيه في
عالم الحصاد وبراري الفرح حتى مع ليونة الطفولة!
تسطع قامة والدي أمامي، حضورٌ
رائع لشرواله، جمدانيه المثبّت بعكاله، قامة قصيرة مشبّعة بكوميديا طازجة،
ضحكة
تنساب بعد قفشة من قفشاته، قوي النكتة إلى حدِّ الضياء، ضياء ظلالِ الروح
وسهول
القلب، قلب ترعرع بين مرابعِ القمح، سألته مرة ومراتٍ، يا بابا كفاكَ تمخر
البراري
تحرس حنطتنا وحنطة الجوار، يضحك قائلاً: يا ابني انّي أجد متعة في حراسةِ
الحنطة
أكثر من متعتكِ وأنتَ تنسج خيوطَ القصائدِ، استنشق الهواء النقي، وأرخي جسدي
فوق
الحشيش مستسلماً للنوم في أعماق البراري، قلتُ له، أخشى أن لا تعود لنا يوماً
وتبقى
راقداً تحت ضياء الشمس على نداوة العشب، ضحكَ مازحاً هذه أمنيتي، عجباً أن
تكون
أمنية شيخٍ عجوز تجاوز العقد الثامن من العمر وهو يشتهي أن يغفو اغفاءة
مفتوحة في
جوف البراري، يستقبل الموت بطريقة كوميدية طريفة، كم مرة وجدته يلولح كوباله
فوق
رأسه ويحرِّكه يميناً ويساراً، ثم يقول ألا تراه؟! فأقول لا، لا أرى أحداً،
بكل
دعابةٍ يقول، ألا ترى الملاك قد جاء كي يأخذ روحي لكني أقاومه بكوبالي قائلاً
له،
الآن ليس وقتي، خذ روح غيري إلى أن أزَوِّج ابني، ثم يتابع مداعبتي بنوعٍ من
الجدِّ
والفكاهةِ، يا ابني إلى متى سأقاوم الملاك لو طال بكَ الزواج، فأضحك، ما
علاقة
زواجي بموضوع الملاك، يتابعُ مؤكِّداً لي أن زواجي يحقِّق له فرحاً ما بعده
فرحٍ
حتى ولو تلاه حشرجاتِ الموتِ، شخصيّة فريدة من نوعها، موته لا يعني شيئاً له
مقابل
أن
يراني زوجاً على تخوم الحصادِ، حصاد الفرح وحصاد يهجة الانتعاش، صورٌ لا تنسى
تتلألأ في بيادر الروح، تواصل عميق بيني وبين والدي، بيني وبين أمّي، بيني
وبين
أرصفة ديريك، بيني وبين الراحلة مريم القس، ومريم ابنة أختي ومريومة، مريومة
المريوماتِ.
لا
أتخيل ديريك بدون كرومها، لا أتخيل نفسي بدون تلكَ الدَّوالي،
مدنية مجنونة تقتحم بساتين الرُّوح، تقتلع أفراحي، ذاكرتي المخضَّبة
بالرَّبيع،
أغصان الدَّاليات تتدلى في رحاب العناق، حلمي مفهرس بسلال العنبِ، خلسة كنتُ
أعبر
في
كرم بطرس القس التقط تينةً ناضجة بعيداً عن أنظار أمّي، وبعيداً عن كوبال
والدي،
كان سيفرم شحمة أذني لو رآني، آكلها بلذة عميقة، نكهةٌ ولا أحلى، حتّى الآن
ما أزال
أشتهي التين وكأنني لم أرَ تيناً في حياتي! .. يستحضرني الآن كيف كان زملائي
حنّا
كوري وريمون لحدو وبقية الشلَّة، يراقبون والدي ويدخلون كرمنا، يقطفون عناقيد
العنب
فيستيقظ والدي على خشخشاتهم فينهضُ ثم يرفعُ كوباله ويسدِّدُ أحجاره نحوهم
فيهربون
ويركض خلفهم إلى تخوم الجبال، إلى أن أوصلهم أكثر من مرة إلى "كاني كركي
والحكمية"،
تاركاً الكرم لانقضاضِ مراهقين آخرين، شيخ في السبعين من العمر يركض خلف
مراهقين في
باكورة العمر وهم كانوا يرتعشون خوفاً من كوباله وشرواله المرفرف على أجنحة
الريح،
يسردون لي معركتهم مع والدي في اليوم التالي في حصة الرياضيات أو الانكليزي،
أضحك
ويضحك ريمون قائلاً يا شيخ كل حجرة كان يسدِّدها والدكَ نحونا كان يقطع
قصباتنا
فكنا نركض بخوفٍ غريب ومع هذا كنا نتلصلص بعد أيام لنقتحم عرين الدوالي، فكان
ينهض
من
تحت دالية مفروشة ثم نبدأ بعبور البراري، مشهد يصلح لعمل درامي يتخلله طرافة
الكوميدي، هل كان حنا كوري يتذكر هذا العبور في البراري فيما كان يدرس في
موسكو
تفاصيل مقررات الطب، أم أنه كان غائصاً في معالم العشق ورحاب العناق؟!
ذكريات
لها علاقة بوهجِ الروح في اقصى تجليات العناقِ! .. عناق الأحبة الذين رحلوا
والذين
سيرحلون تباعاً، وحدها القصيدة تظل شامخة فوق وجنةِ الزمنِ!
أحبّائي، لكم
أقدّم توهّجات غربتي، أقدِّم حنين الرُّوح، أقدِّم جمرة الشوق إلى أبهى ما في
خميلة
القصائد
..
ديريك صديقة ترفرف فوق وهجِ الروح مثلَ نكهةِ النَّارنجِ!
|