عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

بقلم: نينوس صوما اسعد
سويد ستوكهولم


الموسيقا السريانية الكنسية (الجزء الرابع)

السلم الموسيقي لدى الشعوب القديمة(1)

تحت هذا العنوان "السلم الموسيقي لدى الشعوب القديمة" الذي يتكون من جزئين، سأوضح بعض المفاهيم الغامضة في سلالم موسيقا الشعوب القديمة، وسأنقد بعضاً منها خاصة تلك التي لا زالت تستعمل كمسلمات لدى البعض، حيث أخذوها وقبلوها على عللها دون مناقشتها والتأكد من صحتها. فالجزء الأول يتناول السلم الموسيقي لدى السومريين وقيثارتهم الموسيقية، وأما الثاني فيتناول وبإقتضاب السلم الموسيقي لدى اليونان والصينيين والهنود والفرس واليهود وغيرهم.
 
1. الموسيقا لدى السومريين:

يقال بأن للسومريين فضل كبير على الموسيقا في إختراعهم بعض الآلات الموسيقية، وعلى التدوين الموسيقي الأول (الذي يعتبر البدايات والمحاولات الأولى في تدوين الألحان الموسيقية على الالواح الطينية بإستعمال رموز من الكتابة المسمارية المقطعية)، وكذلك لإستنباطهم للكثير من الألحان الدينية التي كانت تغنى للآلهة في المعابد وقصور الملوك. 

 في عام 1929 أكتشف عالم الآثار البريطاني السير "لينارد وولي" في مدينة أور جنوب العراق، في قبر الملكة "بو آبي شبعاد 2450 ق.م" الذي يحمل الرقم

"1237"، مجموعة من القيثارات وآلات موسيقية ذات أوتار شبيهة بالربابات، وكانت من بين هذه القيثارات المكتشفة القيثارتان السومريتان المعروفتان باسم "الذهبية" و"الفضية" والتي يعود تاريخهما إلى 2450 سنة قبل الميلاد.

ولا زالت "القيثارة الذهبية" محفوظة في متحف الآثار العراقي قسم السومريات ببغداد، وأما "القيثارة الفضية" فهي محفوظة في المتحف البريطاني بلندن.

وقد تم إصلاح هذه القيثارات وإعادة بناؤها على أيدي علماء آخرين في الغرب، والعزف عليها بعد مرور 4500 سنة على صناعتها، وتوصلوا أيضاً إلى معرفة الأسماء السبعة لأوتارها، وحاولوا إيجاد حلول مناسبة للمسافات الصوتية التي بينها.

 والقيثارتان "الذهبية" و"الفضية" المتطورتان والمبنيتان من أحد عشر وتراً تدل على ما للسومريين من رقي ومدنية وثقافة فنية موسيقية صناعية بالغة السمو والجمال. وقد ورثت الشعوب، التي أعقبتهم في المنطقة وحلت محلهم بالتتالي، كل حضارتهم وتراثهم الثقافي والموسيقي وآلاتهم الموسيقية وألحانهم وكتابتهم المسمارية.

وللمعرفة هناك قيثارات عادية كثيرة مكتشفة في المقابر غير الملكية، وهي غير القيثارات السابقة، تعتبر أقدم من القيثارتين الذهبية والفضية المذكورتين، فمنها مبنية من أربعة أوتار فقط، ومنها من ثمانية أوتار، ومنها اكتشفت في مراحل متقدمة مبنية من ثلاثة عشر وتراً. 

 أما السلم الموسيقي السومري فيصرح الباحثون بأنه سلم سباعي، ولكن هذا الأمر يحتاج لمزيد من الدراسة والبحث لمعرفة شكل الأبعاد الصوتية لهذا السلم، بسبب وجود إشكاليات عديدة تدل على عدم وجود ثلاثة "أرباع صوت" التي تميّز الموسيقا الشرقية عن غيرها في هذا السلم، وأيضا على إستعمال السومريين للسلم الخماسي.

(هناك من أدعى وكتب بأن القيثارة السومرية مبنية من سبعة أوتار فقط، لكن هذا الإدعاء غير صحيح ويخلق اشكالية حقيقية حول السلم الموسيقي السومري. فإذا كانت القيثارة تحوي على سبعة أوتار فقط، أي من سبع علامات موسيقية ودون وجود وتر ثامن لنحصل على جواب العلامة الأولى، فإنها تحصر فيما بينها ستة أبعاد صوتية فقط، وهذا غير متوافق مع السلم السباعي ذي الأبعاد السبعة. كما أن عدم معرفتنا لمسافة كل بعد من الأبعاد الستة وكيفية ترتيبها، يدخلنا في مشكلة أعمق وأكبر من الاولى).

إن بعض البحوث الموسيقية وصلت الى النتيجة القائلة بأن السلم السباعي الأبعاد هو من وضع السومريين إستناداً الى قيثارتهم. لكن هذا ليس دليلاً قاطعاً على إختراعهم لهذا السلم. فهذه الفكرة بحاجة الى براهين أكثر وإثباتات أفضل، خاصة ان أصل السومريين وموطنهم الأول قبل إستقرارهم في جنوب العراق غير معروف.
يقول البعض من الآثاريين والمستشرقين بأن السومريين قدموا إلى العراق من وسط آسيا. فإن صدقت هذه النظرية، فإن النظرية القائلة بأن سلم السومريين كان السلم السباعي تسقط. لأن الشعوب الآسيوية كانت ولا زالت تستعمل السلم الخماسي في موسيقاها، ومعروف بأن السلم الموسيقي الخماسي أقدم من السلم الموسيقي السباعي.

لقد ورد في كتاب "تاريخ العود" للباحث الموسيقي العراقي الدكتور صبحي أنور رشيد 1928 - 2010 (وهو عالم في تاريخ الموسيقا وتاريخ الآلات الموسيقية القديمة، وله العديد من الأبحاث العلمية والكتب الموسيقية المهمة منها: "تاريخ الآلات الموسيقية في العراق القديم"، "تاريخ العود"، "مدخل الى تاريخ الغناء"، وغيرها)، حيث يقول: "إن السلم الموسيقي السومري يحتوي على خمسة أصوات كاملة".
فإذا كانت هذه المعلومة صحيحة فإن السلم الموسيقي السومري كان سلماً خماسياً وليس سباعياً، وهذا يلغي النظرية القائلة بإختراعهم للسلم السباعي. وستكون الموسيقا السومرية حسب هذه النظرية مشابهة للموسيقا الأفريقية أو الصينية أو قريبة منهما وخالية من ثلاثة أرباع الصوت.

إن ما ورد لدى البعض عن السلم الصيني الموسيقي بأنه كان سلماً سباعياً إستناداً الى الناي الصيني "تي ذات الثقوب الثلاثة"، ثم تم إستبداله لاحقاً بالسلم الخماسي، هو رأي عار عن الصحة.

فإذا كان الناي الذي له ثقوب خمسة، "وحسب رأي من طرح النظرية السابقة"، لا يستطيع إخراج الأصوات السبعة منه ليعزف به الموسيقا المبنية على السلم الموسيقي السباعي، فكيف سيستطيع ناي ذات ثقوب ثلاثة بإخراج الأصوات السبعة للسلم الموسيقي السباعي.

إن الأقرب للمنطق بأن ناي "تي" صنع بثقوبه الثلاثة لأجل عزف السلم الموسيقي الخماسي وليس السباعي، ليستعمل في الموسيقا الصينية القائمة أساساً على السلم الموسيقي الخماسي.

وإذا كان قد تم إكتشاف ناي سومر "تي - كي" بثلاثة ثقوب مشابه للناي الصيني "تي" فهذا دليل آخر على إستعمال السومريين للسلم الموسيقي الخماسي، بل قد يثبت النظرية القائلة بأن السومريين قد قدموا من وسط آسيا ليستوطنوا في جنوب العراق حاملين معهم موسيقاهم ذات السلم الخماسي وآلاتهم الموسيقية البدائية.

أما الإثبات الآخر الذي يدعم نظرية إستعمال السومريين للسلم الخماسي، هو مكان إستيطانهم في جنوب العراق، أي بجوار الخليج (الفارسي/العربي) على حدود الصحراء العربية التي كانت تتميز "بأفريقية غنائها وإيقاعاتها وإستعمالها للسلم الخماسي".

فالسومريين إن تأثروا بنوع الموسيقا الصحراوية الأفريقية فهذا يأخذنا الى استعمالهم للسلم الموسيقي الخماسي.

ورغم إستعمال أهل الصحراء العربية والخليج في هذه الأيام للسلم السباعي، لكن القفزات الصوتية ذات البعدين الكاملين في غنائهم التراثي، وتأثرهم الكبير بالغناء الأفريقي والإيقاعات الصحراوية، ليست سوى دليل واضح على جذور موسيقاهم القديمة أنها كانت مبنية على السلم الخماسي. فلا يستبعد أبداً إستعمال السومريين للسلم الخماسي نسبة لموطنهم المطل على الصحراء العربية.

 وأما ما يدعم نظرية إستعمال السومريين السلم الموسيقي السباعي الأبعاد، هو إستعمال الكلدان في بابل لهذا السلم. فربما وصل هذا السلم للكلدان من بقايا السومريين أو الآكاديين، وهذه مشكلة حقيقية أخرى للفارق الزمني الكبير بين السومريين/الآكاديين والكلدانيين.

إن التوراة تفيدنا بشكل غير مباشر على أن الكلدانيين استعملوا السلم الموسيقي السباعي لأن ما وصل إلينا من ألحان اليهود، مبنية على السلم السباعي. وتقول التوراة "نزح ابراهيم من أور الكلدانيين"، وتقول عنه: "آراميا تائها كان أبي". والكلدان هم من الآراميين، والآراميون استعملوا واستمروا بإستعمال السلم السباعي لغاية اليوم، وهذا واضح في ألحان الكنيسة السريانية بشقيها الشرقي والغربي، مما يؤكد إنتشار السلم السباعي في العراق قديماً.

أما الدليل على إنتشار السلم السباعي بين شعوب العراق القديمة، هو أصل ابراهيم الخليل (الآرامي) الساكن أور الكلدانيين في جنوب العراق، فلقد كان يستعمل السلم السباعي في موسيقاه مثلما استعمله قومه قبل رحيله الى مملكة حران الآرامية التي كانت تستعمل السلم الموسيقي السباعي أيضاً، ثم انتقاله من حران الى أرض كنعان التي كانت شعوبها تستعمل أيضاً السلم السباعي في موسيقاها، ولاحقا جاءت الألحان اليهودية مبنية على السلم الموسيقي السباعي إستمرارية لما حمله معه ابراهيم الخليل من تراث غنائي آرامي مبني على السلم الموسيقي السباعي.

إذاً، إن إستمرار اليهود في إستعمال السلم الموسيقي السباعي منذ ابراهيم الخليل ليومنا هذا هو خير دليل على إستعمال شعوب العراق القديمة المندثرة السلم الموسيقي السباعي. إن جد اليهود ابراهيم الخليل استعمل السلم السباعي في غنائه جرياً على عادة آبائه الكلدان الآراميين، وكان الكلدانيون قد ورثوه عن تلك الشعوب القديمة. ولكن لا نعلم بالتحديد تاريخ وزمن استعمال شعوب العراق القديمة للسلم السباعي، سوى أنه قديم جدا وتجاوز بضعة آلاف من السنين. 

حسب أعتقادي بأن السومريين كانوا في البداية يستعملون السلم الموسيقي الخماسي حيث حملوه معهم عند قدومهم من قلب آسيا الى جنوب العراق، ولكنهم عملوا على الإشتغال عليه وتطويره إلى السلم السباعي لاحقاً، أو ربما استعاروا السلم السباعي من الشعوب السامية المجاورة لهم، لوجود دلالات واضحة على إستعمالهم للسلمين الموسيقيين الخماسي والسباعي.

2. السلم الشرقي في الموسيقا القديمة:

 عندما عزفت الموسيقتان المكتشفتان: السومرية والأوغاريتية من قبل علماء الغرب، كانت المقطوعتان الموسيقيتان خاليتين  تماماً من ثلاثة أرباع الصوت (ربع الصوت)  المستعملة في الموسيقا الشرقية بكثرة. فأدعى البعض بأن علماء الغرب أخطأوا في عزف هذه المقطوعة وأهملوا ربع الصوت، لأنهم لا يعرفون ثلاثة أرباع الصوت الموجودة في الموسيقا الشرقية، لكن هذا إدعاء غير صحيح مطلقاً، لأن علماء الغرب يعرفون أدق التفاصيل عن علوم الموسيقا والآثار، ونسي هؤلاء بأنهم علماء كبار استطاعوا أن يفكوا أكبر الألغاز التاريخية ومنها الرموز الموسيقية الموجودة على الألواح الطينية، فكيف لا يعرفون ما هي ثلاثة أرباع الصوت التي تستعمل في الموسيقا الشرقية، وتاريخهم يشهد بأنهم استعملوا سابقاً أرباع الصوت في موسيقاهم ثم تم إلغاؤها قبل عدة قرون فقط. بل أن هؤلاء المدعون لم يطلعوا على ما قام به بعض العلماء المشرقيين من تجارب رائدة في هذا المجال حيثوا صاغوا سلالم هذه المقطوعات بأبعاد صوتية خالية من ثلاثة أرباع المسافات الصوتية، وكنت قد أشرت لهذا الأمر في تجربة العالم السوري راوول فيتالي واعتماده "سلم مقام الكرد من درجة مي" الخالي من علامات التحويل الموسيقية الى النصف ومن أرباع الصوت، لعزف الموسيقا المكتشفة في مدينة أوغاريت لإيمانه بأن الموسيقا القديمة الأوغاريتية والآكادية خالية من ثلاثة أرباع الصوت.  

 يقول علماء الدراسات الموسيقية بأن موسيقا الشعوب القديمة لا تحوي ثلاثة أرباع الصوت، إنما كانت تعتمد على أبعاد كاملة، أو أنصافها. وأكد هذا الأمر أيضا الباحث العراقي صبحي أنور رشيد بقوله بأن السلم الموسيقي السومري مبني من خمسة أصوات كاملة، أي خال من ثلاثة أرباع الصوت المتواجدة في الموسيقا الشرقية.

 تجربة عزف على القيثارة السومرية:

 ننقل الحدث التالي بتصرف حول العزف على القيثارة السومرية لتبيان مقدرتها على مرافقتها للآلات الموسيقية الأخرى أي للاوركيسترا في الحفلات العامة.

 في بداية الثمانينيات من القرن المنصرم وفي ندوة موسيقية أقيمت فى أحد أجنحة متحف الآثار العراقية فى بغداد، قدم فيها الأستاذ "سالم حسين" وهو واحد من الموسيقيين العراقيين والعرب الرواد، وملحن وعازف قدير على آلة القانون وكان أستاذاً فى معهد الفنون الجميلة في بغداد، وله كتب مهمة فى تاريخ الموسيقا العراقية وسلالمها وكتاب عن آلة القانون، قدم بحثاً موسيقياً وتجارب عزف على نسخة شبيهة مصنوعة على غرار آلة القيثارة السومرية، وبمرافقة فرقة موسيقية مكونة من طلاب وأساتذة المعهد.

وكان من بين الحضور الأستاذ عبد الرحمن جبقجي الباحث الموسيقي السوري المعروف، والأكاديمي العراقي الدكتور طارق حسون فريد، اللذان قدما مداخلات مهمة مع بعض الموسيقيين بخصوص القضايا التكنيكية التي تتعلق في العزف على آلة القيثارة السومرية وإليكم مختصراً لها :

 1- إن القيثارة لا يمكن سماع صوتها إذا عزف عليها بالأصابع المجردة أو بإستخدام ريشة القانون كما فعل الأستاذ محاضر الندوة، لكن عند استخدام مضرب (مثل مضرب السنطور) تمكن الجميع من سماع صوتها بوضوح.

2- إن القيثارة عاجزة تماماً على الإستمرار في العزف مع الفرقة الموسيقية الشرقية التي تتسم بكثرة إنتقالاتها النغمية، لعدم وجود "عُرَب أو عَرَبات" (التي هي جزء من الآلة تستعمل لتحويل قيمة البعد الصوتي، لرفعه أو خفضه) في القيثارة، كعُرَب آلة القانون، فكانت الفرقة تتوقف مع كل تغيير في النغم ليتسنى لعازف القيثارة تسوية أوتارها على وفق النغم الجديد، وهذا لا يمكن من الناحية العملية والموسيقية كما حدث أثناء الندوة.

ويحق التساؤل كيف كان الفنان العراقي القديم يقدم فعالياته الموسيغنائية اثناء مشاركة القيثارة في العزف.

 ويبدو أن هذه المشكلة لم تكن وليدة اليوم بل هي موجودة منذ القدم، وربما منذ صناعة القيثارة، ففي العراق أكتشف لوح طيني بالخط المسماري فيه تعليمات مهمة عن كيفية الغناء بمصاحبة القيثارة، حيث وضع المدون جدولاً ذكر فيه التغيرات الواجب إجرائها على أوتار القيثارة للحصول على أي نغم أو مقام مطلوب.

وهذه الإشكالية تفتح أبواب تساؤلات جمة حول ما قيل ويقال الكثير عن القيثارة السومرية أو مجموعة الآلات الموسيقية المكتشفة عند الأقوام القديمة في العراق.

 لكم كل المحبة

 الجزء الخامس

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها