عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

بقلم: نينوس صوما اسعد
سويد ستوكهولم
     


الموسيقا السريانية الكنسية  (الجزء السادس والثلاثون)

مغالطات موسيقية وتاريخية

الموسيقار كبرئيل اسعد

في الجزئين السابقين 34- 35 كنا قد حددنا ماهية بعض المصطلحات السريانية مثل قولو وقينثو وكلمتي نغمة ومقام العربيتين، وبيّنا خطأ تداولها وشرحنا كيفية استعمالاتها. ونكمل في هذا الجزء شروحاتنا بذات الموضوع لنبيّن إذا كانت اسماء المقامات الشرقية مشتقة من اللغة السريانية، كاشفين المصدر الذي استند عليه معظم من تبنّى هذا الامر، مع مناقشة مغالطات اخرى.

مدخل

كان يندرج تحت مصطلح "الموسيقا الشرقية" موسيقات لشعوب كثيرة مثل: العرب والفرس واليونان والترك والارمن والسريان وروم الشرق والقبط والاكراد وغيرهم. ولكل شعب من هذه الشعوب خاصية معينة لموسيقاه وإنتاجات موسيقية كثيرة منبثقة من حضارته ونكهة عاداته وتقاليده.

وفي "مؤتمر الموسيقا العربية الاول" الذي عقد في القاهرة عام 1932م تم تحديد مصطلح "الموسيقا العربية" لأول مرة بعدما كان جزءاً من مصطلح جماعي هو "الموسيقا الشرقية"، وتم فصلها عن الموسيقا التركية. لكن بقيت معظم تسميات المقامات المستعملة في الموسيقا العربية كما كانت إما فارسية او عربية او تركية، وهذا أمر مسلم به في الشرق. مثل مقام اليكاه، مقام عجم عشيران، مقام شوق إفزا، مقام حسيني عشيران، مقام سوزدل، مقام العراق، مقام راحة الأرواح، مقام فرحناك، مقام كوشت، مقام الرست، مقام سوزناك، مقام سازكار، مقام حجاز، مقام حجازكار، مقام نهوند، مقام نوروز، مقام زنجران، مقام البياتي، مقام أصفهان، مقام صبا، مقام عرضبار، مقام السيكاه، مقام نيشابور، مقام جهاركاه، مقام النوى، مقام الحسيني، مقام الأوج، مقام الماهور. وهناك المئات من المقامات وتفرعاتها.

وكما نلاحظ بـأن معظم تسميات المقامات ليست عربية إنما فارسية. لكن ظهر مؤخراً البعض ممن أدّعوا بأن بعض تسميات المقامات هي سريانية الأصل ثم عربت أسماؤها او أصبحت لاحقاً فارسية او عربية او تركية خلال حكم الفرس والعرب والترك للمشرق.

هذه آراء صبيانية وإدعاءات باطلة عارية عن الصحة، لأنها لم تستند إلى مرجع موسيقي علمي واحد، او على مصدر تاريخي ليثبت مزاعم اصحابها. فأصحاب هذه الإدعاءات يعتمدون على التشابه اللفظي او الشكلي للاسماء. والإعتماد على التشابه اللفظي والشكلي بين أسماء بعض المقامات الشرقية مع بعض الكلمات السريانية، هي طريقة غير علمية وغير صحيحة لجعل هذه التسميات سريانية الجذر والأصل.

كما انتشرت مؤخراً بين السريان مغالطات وطروحات غير مدعومة بإثباتات تقول بأن موسيقانا الكنسية السريانية متحدرة موسيقا الشعوب القديمة كموسيقا السومريين والآكاديين والآشوريين، وأن نظام الألحان الثمان "إكاديس" السرياني الكنسي منشأه سومر وآكاد وآشور ثم انتقل الى اليونانيين بواسطة السريان، وأن كلمة اكاديس متحدرة من آكاد.

سنناقش تباعاً أهم الآراء التي أدعت ونشرت هذه الخرافات، لأجل كشف الحقيقة والحفاظ على موسيقانا السريانية الكنسية ولعدم تشويهها. وسنبدأ بأول من أدّعى بسريانية أسماء المقامات الشرقية، وبأن كلمة إكاديس هي من آكاد، وبأن موسيقانا متحدرة من موسيقا الشعوب القديمة، هوعمنا الموسيقار المرحوم كبرئيل اسعد، ويعرف أيضاً باسم جبران اسعد.

 الموسيقار كبرئيل اسعد وكتابه "الموسيقى السوريّة عبر التاريخ"

لقد قمنا بالتعريف عن الموسيقار كبرئيل اسعد (1907- 1997م) في الجزء الثاني والثلاثين ونختصره بالتالي: رائد الاغنية السريانية الكلاسيكية، والوالد الحقيقي والمؤسس للأغنية السريانية الحديثة، برع في تلحين وتأليف الأغنية القومية المشجعة على التمسك باللغة والتراب والهوية السريانية. ولكونه كان مولعاً بالموسيقا الغربية كما الشرقية، لهذا سيطر الاسلوب الغربي في التلحين على الكثير من أغانيه القومية مما أعطاها طابعاً مميّزاً في عصره واسلوب خاص به في التلحين. كما اشتهر بطريقته البيزنطية الجميلة والساحرة في اداء بعض التضرّعات السريانية المسماة ܬܰܟܼܫܦ̈ܳܬܳܐ (تخشفوثو) مثل: ܛܰܥܡܶܗ ܕܗܳܒܶܝܠ طَعمِه دهُوبيل، ܗܳܐ ܓܶܝܪ ܝܳܘ̈ܡܳܬܰܢ هوُغير يَوموُثان، ܐܶܡܰܬܝ̱ ܕܰܠܚܰܪܬܳܐ إماث دَلحارثوُ" ܡܰܠܟܳܐ ܡܫܺܝܚܳܐ ملكو مشيحو.

نشر في حلب عام 1953 مجموعة من ألحانه في كتاب صغير واسمه بالسريانيّة "ܡܶܢ ܡܽܘܣܺܩܺܝ ܕܺܝܠܰܢ ܚܕܰܬܳܐ مِن موسيقي ديلان حداثو" (من موسيقانا الحديثة) وهو يحوي مجموعة أناشيد سريانية عذبة أغلبها هي من الحانه السريانية، وأما كلماتها فهي من تأليف شعراء كبار مثل المطران يوحانون دولباني، ويوحانون سلمان، ويوحانون قاشيشو، وفولوس كبريال، وجورج دنهش، والمطران بولس بهنام، والأب كبرئيل ايدين وغيرهم.

وأصدر في بيروت عام 1974 اسطوانة تحتوي على أغنيتين من تلحينه. ثم نشر  كتابه "الموسيقى السوريّة عبر التاريخ" عام 1990 وهو كتاب صغير يقع في سبعين صفحة يضم معلومات عامة وخاصة عن الالحان السريانية. لكنه يحوي ايضاً بعض المغالطات التي سننقدها. ورغم عنوان الكتاب إلا انه يتناول موسيقا الكنيسة السريانية.

لكن أهم شيء في الكتاب على الاطلاق هو تضمنه مقالة للمطران يوحنا دولباني منشورة بخط يده عن تاريخ الموسيقا السريانية تشمل الصفحات 8-12، (كنا قد نشرناها بعد تحقيقها في الجزء الثاني والثلاثين من مقالنا مع تعريف عن المطران دولباني وعن كبرئيل اسعد)، وكذلك قيام المؤلف بتنويط "سيبِلثوُ زوديق دنِهوهِ ܙܳܕܶܩ ܕܢܶܗܘܶܐ" وهي المجموعة الأولى من الألحان السريانية الموجودة في كتاب "بيث كازو"، وتشمل الصفحات 26-43 من الكتاب.

لقد كان عمنا كبرئيل اسعد صاحب موهبة عظيمة في التلحين وعازفا بارعاً على آلة الكمان، وكان قارئاً جيداً لكتب التاريخ التي صدرت بالعربية، ولكنه لم يكن باحثاً في الموسيقا الشرقية والسريانية، ولا باحثاً في التاريخ، لهذا وقع في مغالطات تاريخية وموسيقية.

 مغالطات الموسيقار كبرئيل اسعد

إن ما ورد من مواضيع أخرى في كتاب كبرئيل اسعد "الموسيقى السوريّة عبر التاريخ" فاغلبها قضايا غير جدية، وبعضها تحتوي على مغالطات تاريخية وموسيقية وإدعاءات غير مثبتة علمياً، واهمها:

1- الإدعاء بأن كلمة إكاديس وهي اسم نظام الالحان الثمانية السرياني مشتقة كلمة آكاد.

2- الإدعاء بأن نظام الالحان الثمانية السرياني متحدر من نظام سومري آكادي قديم جداً.

3- الإدعاء بأن اصل تسمية المقامات الشرقية هو سرياني.

1- كبرئيل اسعد ونظام الالحان إكاديس

اقتبس بإختصار الآتي من كتاب كبرئيل اسعد (الموسيقى السورية عبر التاريخ) من الصفحة 71 والاخيرة من كتابه:

"بلغ عدد الملحنين المشهورين في الكنيسة السريانية 37 ملحناً، 15 منهم من السريان المشارقة. أما الملحنون الغربيون فبلغ عددهم 22 المجموع 37 ملحناً. وبعد الإنتهاء من التلحين اتفق الجميع واطلقوا على الألحان الثمانية اي على السلم الموسيقي اسم (اكاديا) باللغة السريانية للدلالة على أن هذا السلم يعود بجذوره الى الشعب الآكادي، ثم تحور هذا الاسم عند اليونانيين فدعي هذا السلم عندهم ب (اكاديس)". انتهى الاقتباس المختصر.

1-  قرأ عمنا كبرييل اسعد في كتاب تاريخ الادب السرياني "اللؤلؤ المنثور" للعلامة البطريرك أفرام برصوم، بأن نظام الألحان الثمانية يسَمّى "اكاديا" المعربة من إكاديس، فذهب بالقول بأن كلمة "إكاديس" تحدرت من كلمة "آكاد"، لكن دون أن يقدم لنا وثيقة تاريخية واحدة تدعم قوله، بل اعتمد فقط على تشابه اللفظي والكتابي للكلمات اكاديس واكاديا واكاد، وليس على لغة الكلمة ومصدرها ومعناها. ان كلمة "إكاديس" يونانية وتعني لحن، ولا علاقة لها باسم دولة آكاد القديمة ولا بالشعب الآكادي ولا حتى باللغة الآكادية.

2- اورد الكاتب فكرة خطيرة في كتابه نقتبس منها: "وبعد الإنتهاء من التلحين (اتفق) الجميع واطلقوا على الألحان الثمانية اي على السلم الموسيقي اسم (اكاديا)". انتهى الإقتباس.

والسؤال المهم هو: هل صحيح هو بأن كل الملحنين السرياني من مشارقة ومغاربة اجتمعوا في مكان ما، واين ومتى ليقرروا ويتفقوا ؟

هناك مسافات طويلة جداً وازمنة تجاوزت مئات السنين تفصل الملحنون عن بعضهم. فلو علمنا بأن المسافة الزمنية بين الملحنين مار شمعون برصباعى 341م وبين يعقوب البرطلي  1242م قد تجاوز 800 سنة فكيف اتفقا معاً ؟

وكيف تم اتفاق بين جميع الملحنين الذين لا ينتمون لمكان وزمان واحد على تسمية نظام الألحان بآكاديا نسبة للآكاديين ؟ هذه حتماً نكتة وليست معرفة.

  حقيقة إكاديس

إن كل الوثائق المتوفرة تؤكد بأن اليونان والسريان هم الذين اخترعوا نظام الألحان الثمانية إكاديس في مدينتي انطاكيا والرها لينتقل بعدها الى القسطنطينية ثم اوروبا، ولا علاقة للشعوب القديمة البائدة مثل سومر وآكاد واشور به. فعدم وجود هذا النظام اليوم في الكنائس العراقية الآشورية والكلدنية الغير انطاكية هو خير دليل يؤكد على هذه الحقيقة. وأما الكنائس الانطاكية فلقد استعملته وحافظت عليه وأمَّنَت استمراريته والعمل به لغاية يومنا هذا.

"إكاديس" كلمة يونانية اطلقت على نظام الألحان الثمانية السرياني الكنسي، ووردت الكلمة في كتاب "ܐܝܬܝܩܘܢ الإيثيقون" للفيلسوف السرياني الكبير المفريان غريغوريوس ابن العبري (1226- 1286)م في نسخته السريانية (ص37) "ܐܟܐܕ̈ܝܣ" وبصيغة الجمع، ووردت في النسخة العربية التي قام بترجمتها العلامة المطران بولس بهنام (1916- 1969)م في (ص141) بصيغة "اكاديس". وقد عرّبها البطريرك العلامة افرام الاول برصوم (1887- 1957) م في كتابه "اللؤلؤ المنثور" (ص55) بكلمة "اكاديا"، ولم يشكل الألف بالهمزة والكسرة لعدم تشكيلها في صيغتها السريانية "ܐܟܐܕܝܣ" في كتاب الإيثيقون. فكان عليه أن يضع همزة وكسرة تحت الألف المطلقة ويكتبها "إكاديا"، او ينقلها كما هي في صيغتها السريانية "إكاديس" كما فعل المطران بولس بهنام في ترجمته. لأن هذه الكلمة وردت ايضاً في كتاب "ܗܘܕܳܝ̈ܶܐ" "الهدايات" لأبن العبري (ص41) طبعة دير مار أفرام بهولندا سنة 1986 بصيغة "ܐܝܟܰܕܝ̈ܐܰܣ" وهي في حالة الجمع، وتكتب بالعربية "ايكادياس". والتسمية بصيغتها هذه تؤكد على يونانيتها، وقد استعملها ابن العبري بمعنى الألحان ونظام الألحان. ووردت ايضاً الكلمة بصيغها اليونانية "ܐܝܟܘ̇ܣ إيكوس" بمعنى لحن في كتاب الصلوات اليومية "ܫܚܝܡܐ شحيمو" في الصفحة 6 طبعة 1982 بيروت.

وأما اليونان فقد استعملوا التسمية "أوكتوإيكوس" لنظام الألحان الثمانية في الكنيسة البيزنطية، وكلمة "اوكتو او اوكتاف" باليونانية فتعمي العدد رقم ثمان، وأما ايكوس فمعناها لحن او ألحان، ليصبح معنى الكلمة اوكتوايكوس الألحان الثمانية، وسمي نظام الألحان بها.

والسريان بدورهم أخذوا الكلمة عن اليونان الكلمة بصيغة إكاديس المشتقة من كلمة "إخوديس او إكوديس" اليونانية التي تعني "لحن" أو ألحان، والتي اشتُقّ منها كلمة "إكو Echo" أي الصدى". واطلقوه على نظامهم اللحني الخاص بهم.

 2- كبرئيل اسعد ونظام الالحان الثمانية

إن نظام الالحان السرياني (إكاديس) يتكون من ثمانية الحان مختلفة السلالم الموسيقية من حيث الابعاد الصوتية، وهي قدمويو حتى تمينويو، وجميعها تنتمي للسلم السباعي الموسيقي. لكن السيد اسعد إدعى في كتابه بأن نظام الالحان الثمانية السرياني متحدر من نظام سومري آكادي قديم جداً، وقام بتسمية السلالم الموسيقية السريانية من قدمويو الى تمينويو بتسميات اوتار القيثارة السومرية لكي يوهم القارئ بأننا ورثنا هذا النظام (الثمانية ألحان) من الشعوب القديمة التي اختفت من مسرح الحياة ثم انتقل الى اليونانيين بواسطة السريان.

إن هذه نظرية غير صحيحة وهي بحاجة الى مصادر حقيقية لتثبت صحتها، والحقيقة هي معكوسة تماماً فكما كتبت بأن هذا النظام وضع في انطاكيا وباليونانية باسم إكتوإيخوس ثم في الرها السريانية ودعي ايضاً باليونانية إكاديس. وليس هناك من نقض هذه الحقيقة بمصادر ووثائق تاريخية صحيحة.

أما بالنسبة للأبعاد الصوتية للسلم السومري الموسيقي او الآكادي فلم يستطع أحد أن يثبت كيف كانت ابعاده الصوتية، فهناك آراء تقول بأن السلم السومري القديم كان خماسي وليس سباعي، وهناك من قال بأن السلم السومري يتكون من خمسة ابعاد صوتية كاملة، اي لا يشبه السلم السباعي بأبعاده الصوتية.

يقول في هذا الصدد الباحث الموسيقي العراقي الدكتور صبحي أنور رشيد 1928 – 2010 في كتابه "تاريخ العود": (إن السلم الموسيقي السومري يحتوي على خمسة أصوات كاملة). اي أنه لا يشبه السلم السباعي إطلاقاً.

ولكن بالمقابل هناك نظرية تؤكد بأن السلم السومري القديم كان متكوناً من سبعة ابعاد صوتية. فإن أخذنا نظرية السبعة ابعاد صوتية على ما هي عليه، فهناك سؤال ملح يطرح نفسه وهو: هل السلم السباعي السومري كان يحوي ثلاثة ارباع الصوت ام لا ؟

إن ما قام به البحاثة من تسجيلات لمحاولات وتجارب في ترجمة موسيقية لما اكتشفوه من كتابات (يقال بأنها نوع من نوطة لموسيقا قديمة جداً)، كانت خالية من ارباع الصوت، اي ان السلم السومري كان يتكون من الابعاد الصوتية الكاملة وانصاف الابعاد ولم يكن يحوي ارباع الصوت.

اما ما ذهب إليه الموسيقار  كبرئيل اسعد في كتابه بأن العلماء لا يعرفون ارباع الصوت لهذا عزفوا المقطوعة الموسيقية بدون ارباع. فهذا رأي عارٍ عن الصحة لأن العلماء المستشرقون يعرفون تماما ماهية الموسيقا الشرقية بكل تفاصيلها. فالإضافة لما قاموا به هناك من السوريين لهم تجارب رائدة في عزف موسيقا اوغاريت، وكانت ايضاً بدون ارباع صوت، فهل السوريون لا يعرفون ارباع الصوت ايضاً ؟ لقد قاموا بتجاربهم لأن الاعتقاد السائد هو أن موسيقا الشعوب القديمة لا تحوي ارباع صوت.

صحيح ان بعض الموسيقيين الغربيين نوّطوا البيث كازو او جزءاً منه بدون ارباع الصوت، لكن هذا لا يؤكد بوجود علاقة بين موسيقانا الكنسية وبين موسيقا الشعوب القديمة.    

 3- كبرئيل اسعد وتسمية المقامات

وأما ما يخص بتسمية المقامات الشرقية الذي ورد في كتاب عمنا كبرئيل اسعد فأقتبس بإختصار ما ذهب اليه من قول في الصفحة 19: " قد تم تحوير وتبديل اسماء الالحان من اللغة الآرامية الى العربية كالآتي:

1- المقام الأول البياتي من بَيَا السريانية ܒܰܝܰܐ.

2- المقام الثاني حسيني من حَوسُنو السريانية ܚܰܘܣܳܢܳܐ،

3- المقام الثالث العراق من اوراك السريانية ܐܘܪ- ܐܰܟ.

4- المقام الرابع الراست من رَصد ܪܰܨܕ.

5- المقام الخامس الاوج من اوجو السريانية ܐܘܽܓܳܐ.

6- المقام السادس العجم من عجَم السريانية ܥܓܰܡ.

7- المقام السابع الصَبا من صبوُ السريانية ܨܒܳܐ.

8- المقام الثامن الحجاز من حاجو السريانية ܚܰܓܳܐ". انتهى الإقتباس.

وقد أصبح هذا الإدعاء الذي أورده عمي المرحوم كبرئيل اسعد في كتابه مصدراً للبعض ليرددوا كالببغاءات ذات المعلومات، دون ان يجهدوا انفسهم للتدقيق العلمي عن صحة الموضوع.

أما قصة جعل تسمية المقامات من أصل سرياني حسب الكتاب فهي للأسف كالتالي. عندما كان عمي كبرئيل اسعد يقوم بتأليف قصاصات كتابه هذا، طلب من أخي الدكتور اسعد صوما اسعد (وهو يملك ثقافة جيدة في مجال الموسيقا السريانية) وأراد منه أن يبحث له عن كلمات سريانية مشابهة لأسماء المقامات الشرقية قائلاً له "سنجعل أصل المقامات سريانية، وسنقول انها من أصل سرياني"، فرفض أخي اسعد هذا الاجراء وهذا العمل غير العلمي. ثم طلب المؤلف من أخي الموسيقي الملحن أفرام صوما اسعد ان يساعده في هذا المجال، فقال له اخي أفرام "ياعمي، هذا لا يجوز"، فرد عليه عمي: نحن سنقول أن أصل تسمية المقامات الشرقية هو من السريانية، فمن له علينا، ومن سيعترض ويناقضنا؟ وأخيراً وبعد مد وجذر استسلم أخي أفرام لمساعدة عمنا، فاستخرج من قاموس أوكين منّا السرياني العربي كلمات سريانية مشابهة لأسماء المقامات الشرقية، فقام عمي بتدوينها. كما قام أفرام بمساعدته كثيرا في اعداد وتنسيق الكتاب المذكور، الى ان اكتمل فقام بطباعته في سوريا.

للأسف لقد أصبحت هذه اللعبة التي قام بها عمي كبرئيل اسعد واضطر اخي افرام اسعد لمساعدته فيه، وكأنها مرجعاً علمياً في هذا الموضوع، لأن الكثيرين قد اخذوا هذه الخرافة من هذا الكتاب وأصبحت لديهم مرجعاً دون أن يتحققوا من صحتها. لذلك رأيت ان اصحح الوضع هنا وأكشف حقيقة الامر.

 مغالطات تسمية المقامات:

بالإضافة لمجموعة المغالطات التاريخية التي وردت في الكتاب والتي تخص الموسيقا السريانية تاريخياً وارتباطها بالشعوب التي زالت من مسرح التاريخ، هناك حزمة اخرى من المغالطات التي تقول بتسمية المقامات الشرقية هي سريانية الجذر.

1- مغالطة الادعاء بأن أسماء المقامات الشرقية هي سريانية وليست فارسية عربية وتركية، دون يستند الى مصادر ثقة او الى وثائق تاريخية ولغوية.

فكما وضحت أعلاه أن تسميات المقامات ليست سريانية قط، إنما هي كلمات فارسية وعربية وتركية. اراد المؤلف سرينتها في كتابه "الموسيقى السورية عبر التاريخ"، وهذا إدّعاء باطل غير مبني على العلم وعلى أي مصادر علمية، لذلك يعتبر تزوير ثقافي. فأجدادنا لم يذكروا قط في كل مؤلفاتهم ما ذهب إليه عمنا كبرئيل اسعد الذي كان إعتماده قائماً فقط على التشابه اللفظي والشكلي للكلمات، وهذا أمر لا يعترف عليه العلم.

2- مغالطة إطلاق تسمية "مقامات" على نغمات الألحان السريانية. كنا قد وضحنا في المقال السابق بان مصطلح مقامات لا ينطبق على سلالم الالحان السريانية لأن سلم المقام الشرقي مكون من ثمانية درجات موسيقية بينما سلالم معظم الحاننا متكونة من اربعة درجات موسيقية.

لو فحصنا الصفحة 26 من الكتاب وهي نوطة ل سيبلثو زوديق دنِهوهِ ܙܳܕܶܩ ܕܢܶܗܘܶܐ نراه يستعمل مصطلح بيات الذي يتكون موسيقياً من ثماني درجات، بينما هذا مخالف لسلم القدمويو الذي قام هو بتنويطه ويتكون فقط من اربع درجات موسيقية.

3- مغالطة تسمية سلالم ألحاننا السريانية بتسميات فارسية أو عربية أو تركية مثل عجم وصبا وحجاز هي مسألة خاطئة تماماً وخطيرة على مستقبل موسيقانا.

 لن أتطرق الى شرح كل الكلمات السريانية التي طابقها المؤلف مع تسميات المقامات فهي جملة من المغالطات والمتناقضات ولا علاقة لها بالحقيقة. لكن سنأخذ كلمة واحدة كمثل ونناقشها وهي كلمة صبا.

1- تناقض في المعنى والإستعمال. ففي ص 20-21 وبتصرف يقول: (إن معنى صبا بالسريانية هو الفرح والسرور ويستعمل في الكنيسة في مراسيم موت الشهداء لكونه لحناً حزيناً). فكيف يستقيم الفرح والسرور مع مناسبة الحزن ؟ الجواب لكم.

2- عملية ربط بعض المناسبات الكنسية بمعنى تسمية مقام الصبا بالسريانية. فبالرغم من التناقض السابق في معنى صبا سريانياً مع استعمال المناسبات الكنسية، إلا أن المؤلف اراد ان يطابقها ليصل الى نتيجة تقول بأن السلم الموسيقي لمقام الصبا الشرقي هو نفسه السلم الموسيقي للنغمة السابعة الكنسية السريانية.

إن الآباء السريان لم يختاروا مطلقاً انواع النغمات الموسيقية للمناسبات الكنسية السريانية استناداً لسلالم المقامات الشرقية مثل صبا وبيات وحسيني وغيرها، ولا على معاني أسمائها بالسريانية التي لا تدل على مغزى المناسبات الكنسية.  

إنما تم إختيار انواع النغمات وفق قواعد طبيعتها وصفاتها. لأن النغمات لا تُبنى على اسس مسمياتها إنما على اسس طبيعتها وصفاتها. فآباء الكنيسة السريان الموسيقيين الأولين وكما ذكر في بحثه في الألحان السريلنية ان العبري في كتابه الإيثيقون ابتكروا ألحاناً طبيعة نغمات سلالمها الموسيقية مبنية على أركان معينة مشتقة من عناصر الطبيعة، وصفاتها مبنية على مشاعر وأحاسيس معينة مشتقة من أخلاط الإنسان، ومن مزج أركان عناصر الطبيعة مع مشاعر وأحاسيس الإنسان استخرجوا طبيعة النغمات المادية وصفاتها الإنسانية، لتكون متناسبة مع الحالة التي يراد معالجتها، اي متناسبة ومتطابقة لمعاني النصوص واهدافها الدينية ومناسباتها الكنسية. وقد شرحنا عن سبب وكيفية أختيار انواع النغمات الموسيقية في نظم بعض المناسبات الدينية ومنها النغمة السابعة في الجزء السابع مقالنا وكتبنا:

النغمة السابعة: طبيعتها الحرارة واليبوسة، وصفاتها قاسية ونارية ملتهبة، لهذا نظم فيها طقس عيد حلول الروح القدس على التلاميذ ( عيد العنصرة أو فنطيقوستي)، وطقس إنتقال العذراء بالجسد إلى السماء، وكذلك أحد الكهنة ﻷنهم يخدمون النور والنار المتمثلة بهبوط الروح القدس على شكل ألسنة نارية لتحل بالقربان المقدس أثناء صلوات تحضيرهم له، وغيرها من المناسبات.

 في نهاية هذا الجزء نقول بأنه يجب ألّا تُصنَع من المغالطات التي ناقشناها وغيرها حقائق تاريخية تملأ الكتب من غير وجه حق، لأنها مجرد أباطيل قفزت على التاريخ وأختزلت الزمان والمكان، وكأن بقية الحضارات التي ساهمت في تطور الحضارة الانسانية بشكل فعّال وكان لنا معها تداخلاً تاريخياً وحضارياً مثل الحضارة اليونانية والفارسية والعربية ثم التركية لا أهمية لها وغير موجودة في قواميس اصحاب تلك المغالطات.

الجزء السابع والثلاثين

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها