المسيحيُّون
خَميرةُ المَشرِق وخَمرَتُه
Naji Naaman
Les Chrétiens: Pain et Vin du Levant
Christians: Bread and Wine of the Levant
صدرَ عن دار نعمان للثَّقافة كتابٌ جديدٌ للأديب والباحث اللُّبنانيّ
ناجي نعمان عنوانُه "المَسيحيُّون: خَميرةُ المَشرِق وخَمرَتُه"، وهو
تتويجٌ لأعمالٍ سابقة للمؤلِّف حولَ هذا الموضوع نُشرَت تباعًا منذ
ثمانينات القرن الماضي، ولاسيَّما منها: "كتابٌ
موجَّهٌ إلى
الفاعِليَّات المسيحيَّة، الرُّوحيَّة والزَّمنيَّة، في لبنانَ
والمَشرِق"،
أُرسلَ
في أيَّار
من عام
1984
إلى ستٍّ وأربعين من تلك الفاعِليَّات؛
"المَجموعاتُ
العِرقيَّةُ
والمَذهبيَّةُ
في العالَم
العربيّ"
(عَمَلٌ جَماعيٌّ قدَّمَ له المؤلِّفُ وأشرفَ عليه، وكان أبرزَ واضِعي
دراساتِه)،
الصَّادِرُ في مُجَلَّدٍ عامَ
1990،
من ضِمن
"موسوعة
العالَم
العربيِّ المعاصِر"؛
"العالَمُ العربيُّ على عَتَبَة القرن الحادي والعشرين"، الصَّادِرُ
عامَ 1993 في مُجَلَّدٍ آخَرَ من ضِمن الموسوعة عَينِها؛ "ماذا
يَنتَظرُ العَلمانيُّ من المُكَرَّس؟"، مُحاضَرَةٌ أُلقِيَت
في دير الآباء البولُسيِّين
(حَريصا
– لبنان)،
بتاريخ الثَّاني
والعِشرين
من كانون الأوَّل 2006.
هذا، ونُشِرَت أقسامٌ من هذا المؤلَّف، ابتِداءً من كانون الثَّاني
2005 (و/أو ستُنشَرُ لاحِقًا)
في إطار سلسلة "أُمسِيات الأحَد"،
عن مَنشورات المَكتبة البُولُسِيَّة.
***
يسألُ ناجي نعمان في مَدخل الكتاب الواقع في 208 صفحات من الحجم
المتوسِّط الكبير: "في المَشرِق الكلِمةُ، ومنه انتشارُ المسيحيَّة في
أصقاعِ المَعمورَة، فهل يُعقَلُ، بعدَ ألفِيَّتَين، اختِفاءُ أتباع
الكلمةِ من المَشرِق عَينِه؟"، ويُتابِع: "أَلِجُ، بمِثل هذا
التَّساؤل، مسألةَ الوجود المسيحيِّ في المَشرِق، تأريخًا، ولاسيَّما
استِمرارًا؛ وهو موضوعٌ عزيزٌ على قلبي، كما على قلب كلِّ مَشرِقيٍّ
مسيحيٍّ، لا بَل على قلب كلِّ مَشرِقيٍّ أصيلٍ من غير المسيحيِّين،
مُتَمَسِّكٍ بإبقاء هذه الأرضِ المقدَسَّة مَنبعًا حيًّا للتَّوحيد -
منذ إيلِ الآراميِّين القائِلِ "اِزرَعوا المحبَّة، تَحصدوا السَّلام"،
إلى النَّبيِّ العربيّ، مرورًا بموسى اليهود، وعمَّانوئيلِ فِلِسطين -
ونَبعًا خافِقًا بأبناء الدِّيانات السَّماويَّة الثَّلاث، يَعيشون،
جَنبًا إلى جَنب، شهودًا على عَظَمة الشَّرق، وعَظَمة إنسانه".
***
وأمَّا الكتابُ فيتضمَّنُ، إلى المَدخَل، خمسةَ أبواب، وخاتِمَة:
وأمَّا البابُ الأوَّلُ فيَطمحُ إلى الكلام على المسيحيِّين
المَشرِقيِّين بعامَّةٍ، وذلك في فَصلَين اثنَين: فروعِ المسيحيِّين
المَشرِقيِّين، وأعدادِهم، وتَوَزُّعِهم؛ والمسيحيِّين المَشرِقيِّين
والمَجموعاتِ العِرقيَّةِ والمَذهبيَّةِ الأخرى.
وأمَّا البابُ الثَّاني فيأمَلُ عرضَ ما يَكفي من المعلومات حولَ
مُختَلِف مَجموعات المسيحيِّين المَشرِقيِّين، وإيضاحَ هذه المعلومات،
وذلك في ثمانية فُصولٍ هي، بحَسَب التَّرتيب الألِفبائيّ: في
الآثوريِّين والكَلدان (والوعود الكاذِبَة)؛ في الأرمن (الشَّعب
الشَّاهد والشَّهيد)؛ في الأقباط (أهل النُّسك والتَّقوى)؛ في
البروتِستَنتِيِّين (أو في العِلم والمال)؛ في الرُّوم المَلَكيِّين
(الجذور الضَّارِبَة، وحجر الزَّاوِيَة)؛ في السُّريان (من آرام إلى
أسوج)؛ في اللاَّتين (وإنْ أتَوا مُتَأَخِّرين)؛ في المَوارِنَة (من
السَّهل إلى الجبل، ومنه إلى المدينة... فالبَحر؟!).
وأمَّا البابُ الثَّالثُ فيَسعى لإلقاء الضَّوء على مسألة تَعاطي
العَلمانيِّ المسيحيِّ والمُكَرَّس، واحدِهما مع الآخَر.
وأمَّا البابُ الرَّابع، وعنوانُه "المسيحيُّون المَشرِقيُّون: أيُّ
واقعٍ، أيُّ مُرتَجى؟"، فيُحاولُ الاتِّعاظَ من ماضٍ لاستِشراف
مُستقبَل.
وأمَّا البابُ الخامس، فحَولَ الوَحدة العربيَّة، تلك الَّتي، على
العكس من صَيرورة التَّاريخ على هذه الأرض، ما زالَت تَبتعدُ عن بلاد
"الضَّاد"، فيما لِقيامها شروطٌ تُكَلِّلُها الدِّيمقراطيَّةُ الحقَّة،
ورديفتُها المُواطَنَة؛ فَبِالدِّيمقراطيَّة الحقَّة والمواطَنَة فقط
يَنعمُ أبناءُ العالَم العربيّ، على مُختَلِف انتماءاتِهم، بالمساواة
والحرِّيَّة المَسؤولَة، وبالتَّالي، بالحياة الأكثر هناءً الَّتي
يُمكنُ أنْ يؤمِّنَها بَشَر.
وأمَّا الخاتمةُ فقَبَسٌ من نور، ورَجاء.
***
ويسألُ نعمان في الخاتمة أن "ماذا يُخيفُ مَسيحيِّي المَشرِق، من سُهول
نِينَوى، إلى صَعيد مِصر، مُرورًا بجِبال لبنان؟ ماذا يُخيفُ أولئك
الَّذين ما خافوا يومًا إلاَّ من فقدانهم إيمانَهم؟ أأرقامٌ لعَديدٍ
تَتَهاوى؟
كما يسأل: "ماذا يُريدُ مَسيحيُّو المَشرِق، من سُهول نِينَوى، إلى
صَعيد مِصر، مُرورًا بجِبال لبنان؟ ماذا يُريدُ أولئك الَّذين صَمَدوا
في أرضهم، مُحافِظين على إيمانهم، وعَملوا جاهِدين في خدمة أمَّةٍ
عربيَّةٍ ما، مُرتَقَبَةٍ، ولغةٍ أحَبُّوا، وحضارةٍ أسهَموا في
مَداميكها؟ نَعَم، ماذا يُريدون، في ما عَدا تَعزيزِ بقائهم في أرضهم،
مَعيشيًّا؟"
ويُجيب: "إنَّهم يُريدون، إلى ما سَبَق، العيشَ في كرامةٍ، وفي
حُرِّيَّة. إنَّهم يُريدون ألاَّ يَسمَعوا أنَّ النُّطقَ بِاسم الله
مَمنوعٌ عليهم، كما ذاعَ في ماليزيا؛ وألاَّ يُدعَوا إلى تَرك بيوت
أجدادهم خلال ساعاتٍ، كما جَرى في الموصِل؛ وألاَّ يَسمَعوا دعواتٍ من
شَيخٍ تُطالِبُ بهَدم كنائسهم في أرضهم التَّاريخيَّة، كما لو أنَّهم
وَفدوا إلى أرضهم مع الحَمَلات الصَّليبيَّة! وألاَّ يَجِدوا، بالفِعل،
كنائسَهم تُفَجَّر، في العراق، وحتَّى... في باكستان؛ وألاَّ
يُتَّهَموا بالوَاهي من الأمور، كما بالتَّنصير، ولاسيَّما شماليَّ
إفريقيا، فيما أُورُبَّا، كلُّ أُورُبَّا، تَتَحوَّلُ، وفي سُرعةٍ، إلى
الإسلام!
ويقولُ نعمان، حولَ ما هو مَطلوبٌ من مَسيحيِّي المَشرِق، أنَّ "على
هؤلاء، حيثما وُجِدوا، أن يَخرجوا من انقساماتِهم السِّياسيَّة، لا بَل
من غبائهم السِّياسيّ، هذا إذا بَقيَ لهم وُجودٌ سياسيّ، كما في لبنان؛
عليهم أن يَخرجوا من انقِساماتِهم المَذهبيَّة العَقيمة، لا بَلِ
التَّافِهَةِ في زمنٍ هُمُ فيه، على مُختَلِف مَذاهبهم، إلى انقِراض؛
عليهم، في مرحلةٍ أولى، وعلى الأقلّ، أن يُوَحِّدوا تواريخَ أعيادهم؛
عليهم أن يَتَعاضَدوا للثَّبات في إيمانهم، وفي أرضهم؛ عليهم أن
يَعتَبِروا أرضَهم إيمانَهم. كما عليهم ألاَّ يُفَكِّروا لِلَحظةٍ
بالاعتِماد على الحُلول الخارجيَّة، فالحَلُّ حيث هُمُ، في المَشرِق،
ومنه؛ عليهم أن يَنخَرِطوا في مُجتمعاتِهم، وإلى أقصى الدَّرجات؛ عليهم
أن يُطالِبوا بحُقوقهم الطَّبيعيَّة الإنسانيَّة جِهارًا، لهم ولغيرهم
من مُواطِني بلادهم".
ويُضيف: "على المسيحيِّين المَشرِقيِّين، إلى هذا، وقَبلَ هذا، ألاَّ
يَنسَوا فِلِسطينَ، أرضَ المَسيح الَّذي قالَ لهم ذات يوم: "لا
تَخافوا"، ومُقَدَّساتِهم فيها؛ فهم مَعنِيُّون بها، حتَّى أكثرَ من
المُسلِمين، وعليهم أنْ يُدافِعوا عنها ويَعمَلوا على تَحريرها. على
المسيحيِّين المَشرِقيِّين أنْ يَتَذَكَّروا أنَّهم، قَبلَ كلِّ شَيء،
بَشَر؛ وأنَّ الإنسانَ أجمَلُ إيقونةٍ كتبَها الله؛ وأنَّ قضايا
الإنسان، أيِّ إنسانٍ، في كلِّ مكانٍ وزمان، وعلى مَدى الزَّمَكان، هي
قَضاياهم؛ وأنَّهم، إنَّما وُجِدوا لِقَول الحَقّ، أينما حَلُّوا،
ولِنُصرة الحقّ، حيثما وُجِد".
***
ويخلصُ ناجي نعمان إل أنَّ المُشكلةَ في المسيحيِّين، وعندهم، ويدعوهم
إلى التَّحرُّك. ويقول: "قراراتُ الكنائِس المَشرِقيَّة، إمَّا لا تأتي
أبدًا، وإمَّا تأتي متأخِّرةً جدًّا: تلك هي الحقيقة. وأمَّا بِمَ أهلُ
الحَلِّ والعَقْد فيها مَشغولون؟ فتلك مسألةٌ أخرى". ويُطالب: "أرضُ
الرَّعيَّة، أَعيدوها إلى أصحابها، بالقيود والشُّروط غَير المادِّيَّة
الَّتي تَجدونها مناسبةً، يا أهلَ الحَلِّ والعَقْد! أَعيدوا الأوقافَ
إلى أصحابها؛ ساعِدوا في أن يَبنيَ أبناؤكم بيوتَهم على أرض أجدادهم؛
شَجِّعوهم لِيَعودوا إلى الزِّراعة والصِّناعات الحِرَفيَّة؛ إِرحَموهم
في أقساط المدرسة والجامعة، ومَصاريفهما، وفي أعباء الاستِشفاء، عندما
تَكونون على رأس مُؤَسَّساتٍ تُعنى بهَذي الأمور؛ ثَبِّتوهم حيث هُمُ،
كما بَدَأَ بعضُكم يَفعَل، مَشكورًا؛ لا تَجعلوهم يَتركون قراهم
وجبالَهم إلى المُدُن، ففي المُدُن رَغدُ العَيش يَتَساوى مع شَظَفِه،
وفيها تَنفَتِحُ الآفاقُ، بَحرًا وجَوًّا، ويَكونُ المَحظورُ الأكبر،
تَكونُ الهجرة".
ويُضيف: "يا أهلَ الحَلِّ والرَّبط، إنْ تكلَّمتُم، فَلْيَكُن خِطابُكم
مُطَمئِنًا، مُشَجِّعًا، فيه من الأمل والرَّجاء ما عَلَّمَناهُ
السَّيِّدُ المسيح؛ لا كَئيبًا، فيه من القُنوط واليأس ما يَدعو، على
غَير قَصدٍ منكم، إلى رَحيل أبنائكم عن أرضهم".
ويُتابع: "ثَمَّةَ كنائِسُ في بعض دول أُورُبَّا تُباعُ لأنَّ
المُؤمِنين لا يَرتادونها، أو لأنْ ما مِن كهنةٍ لخِدمتها، أو ما مِن
إمكانٍ لصِيانتها، وتَتَحوَّلُ من الدِّين إلى الدُّنيا، وتَنتَقلُ،
أحيانًا، من تَقديم خَمرِ كأسِ قربانٍ مُقَدَّسٍ تُحيِي المُؤمِنين،
إلى تَقديم خَمرٍ رَخيصةٍ يَهيمُ بها السَّكارى؛ كنائِسُنا، والحَمدُ
لله، ما زالَت معنا، وكذلك رُعاتُها والمُؤمِنون؛ فَلْنَعْمَلْ،
جَميعًا، كَيما تَنهَضَ وتَزدَهِر؛ فَلْنَعْمَلْ حتَّى لا تُصبِحَ
أَثَرًا بعدَ عَين، حتَّى لا تَندَثِر!"
ويقول: "إنْ كانَ على مَسيحيِّي المَشرِق، أو قُلْ على مَسيحيِّي
العالَم العربيّ، إمَّا أنْ يَنعَموا بالأمن من دون الحُرِّيَّة،
وإمَّا أنْ لا يَنعَموا لا بالأمن ولا بالحُرِّيَّة، فما يُطلَبُ لهم،
ولأبناء المَجموعات الَّتي تَعيشُ معهم في كنف المَشرِق والعالَم
العربيّ، أنْ يَنعَموا، معًا، بحُقوق المُواطَنَة الَّتي هي خلاصةُ
احتِرامِ التَّعَدُّديَّةِ وتَطبيقِ الدِّيمقراطيَّةِ الفِعليَّة،
والَّتي، وَحدَها، تُؤَمِّنُ الأمنَ والحُرِّيَّةَ للجميع،
وتَكفلُهما".
ويُضيف: "لا مَسيحيَّةَ من دون انفِتاح، لا بَل لا ضَرورةَ للمسيحيَّة
من دون الانفِتاح؛ ومع الانفِتاح الوُجودُ الفاعِلُ بحَسَب ما أرادَه
المسيح، أيًّا كانَتْ أعدادُ أتباعه، أو غَدَت: فانفِتاحُ المسيحيِّ هو
ما يُمَيِّزُه اليومَ؛ فإِنِ انغَلَقَ على ذاته، عادَ إلى دائرة
التَّخلُّف الَّتي تُحيطُ بجميع المُصِرِّين، من حَوله، على الانغِلاق.
حضورُ المسيحيِّين في المَشرِق هو حضورُ المسيح فيه؛ فكيف، يا تُرى،
أرادَ المسيحُ أتباعَه أنْ يَكونوا في أرض النُّبوءات؟ لقد أرادَهم
مِثالَ إيمانٍ ومَحبَّةٍ وصلاةٍ وإقدام، يأخذون مَواقِعَهم الفاعِلَة
في مُجتَمعاتهم، قادِرين على تَحقيق المُستَقبل، على تَحقيق
المُستَحيل".
ويُطلقُ نداءَ رجاء: "لا شكَّ في أنَّ المسيحيَّةَ المُنفَتِحَةَ يَجبُ
أنْ يُقابِلَها إسلامٌ مُنفَتِح، يأخذُ في الاعتِبار حقوقَ المُواطَنَة
والكرامة الإنسانيَّة، لأتباعه وللآخرين، كلِّ الآخَرين. ولكن، في
انتِظار اكتِمال الانفِتاحَين، المسيحيِّ والإسلاميّ - وفي المُطلَق -،
لِنَقُلْ لا لليَأس والخُنوع، إذْ لا طائلَ منهما؛ لِنَقُلْ نَعَم
للتَّآخي بين مُختَلِف جَماعات أرض العَرَب، لا بَل بين مُختَلِف
جَماعات هذه البَسيطَة، فنحن بَشَرٌ مُتَأنسِنون قبلَ كلِّ شيء،
والعَودةُ إلى الجُذور - يا أيُّها المُتَشَدِّدون حيث لا يَجبُ أنْ
تَتَشَدَّدوا، ويا جَميعَ المُتَشَدِّدين - تَختَرقُ العِرقَ والدِّينَ
والوطن، وتُوصِلُ إلى الإنسان. نحن، في مَشرِقنا الحبيب، أمَّةٌ
مُتَنَوِّعة، وإنَّما واحدة. أَسمَعُكم تَسألون: كيف يَصحُّ هذا،
وَحدَةٌ في التَّنوُّع؟ وكيف يُفَسَّر؟ وأُجيب: ذاك هو واقِعُ المَشرِق
السَّاحِرِ الآسِر".
ويُردف: "لَئِن كانَتِ الشُّعوبُ تَتَوَسَّعُ، في التَّاريخ،
وتَنكَفِئ؛ وكذلك تَفعلُ الأديانُ معها، فتَتَوسَّعُ وتَنكَفِئ؛
وَحدَها الأرضُ هي هي، في المَدى المَنظور على الأقلّ؛ ووَحدَها
القِيَمُ الإنسانيَّةُ إلى ازدِياد، لدى الخَيِّرين من البَشَر على
الأقلّ؛ وأمَّا التَّأريخُ فلا يَحفَظُ من الشُّعوب سوى عَظَمتِها في
مَوضوعٍ ما (وزَمَنٍ ما)، كحِكمة اليُونان، وشَهامةِ العُرْب، وبأسِ
الفُرْس؛ ولا يَحفَظُ من الأديان سوى خُطوطِها العريضة، كاحتِرام الأرض
والأجداد لدى الوَثَنيِّين، والرُّوحانيَّةِ لدى أتباع ديانات الشَّرق
الأقصى، والرُّؤيا والثَّباتِ في اليهوديَّة، والمَحَبَّةِ
والتَّسامُحِ في المسيحيَّة، وحَرارةِ الإيمان في الإسلام. الأوطانُ قد
تَتَوسَّعُ، وقد تَزول؛ والشُّعوبُ تَجيءُ وتَذهَب، أو قُلْ
تَتَطَعَّمُ فتَتَبَدَّل؛ وَحدَه التَّفَهُّمُ والانفِتاحُ والسَّعيُ
للوَحدَة بين البَشَر ما يَجبُ أنْ نَسعى له جَميعًا، كَيما نَهنأَ
جَميعًا".
ويُنهي حاثًّا: "هَلاَّ نَعمَلُ على هَناء شعوبنا العربيَّة بجَميع
مُكَوِّناتها وجَماعاتها، أيًّا تَكُن، حتَّى يَجِيءَ يومٌ يُقالُ فيه،
في كُتُبِ التَّاريخ، أنْ قامَت لِلعُرْب، بعدَ عَصرها الانحِطاطيّ،
قِيامة؟"
***
نقرأُ في الكتاب أيضًا:
"المسيحيِّون
المَشرِقيُّون في مَهدِهم وعَرينهم؛ وعليهم،
بالإضافة إلى كَونهم "ملحَ الأرض
ونورَ العالم"،
أنْ يَظَلُّوا،
أيًّا غَدَتْ أعدادُهم ونِسَبُهم، خَميرةَ المَشرِق وخَمرَتَه"...
"إنَّ
الجَماعات - متى تَمايَزَت وتعاضَدَت - أشرقَتْ حضارةً وهناءَ شَعوب؛
في حين أنَّها - إذا اعتَبَرَت نفسَها أغلبيَّاتٍ و/أو أقلِّيَّاتٍ أو
اعتَبَرَت غيرَها من الجَماعات كذلك، فمَيَّزَتْ نفسَها وقَسَتْ على
الآخَرين
- غاضَتْ إنسانيَّتُها، فخسرَتْ
حضارتَها،
وغابَتْ
عن تاريخ الأمم"...
"أليسَ
المَرءُ، قبلَ العِرق والمَذهبِ
واللُّغةِ واللَّونِ وما إليها من أمورٍ تُمَيِّزُه
عن غيره، أليسَ المَرءُ، قبلَ كلِّ هذا، إنسانًا؟"
***
هذا، ولا يَندَرِجُ
هذا الكتابُ
في
إطار سلسلة "الثَّقافة بالمَجَّان" الَّتي أنشأَها
ناجي نعمان عامَ
1991، وما زالَ يُشرِفُ عليها،
إذ هو مَعروضٌ للمَبيع؛ ولكنَّه يَصبُّ في دَلْوِ المَجَّانيَّة، لأنَّ
مُؤَلِّفَه، "مَجنونَ الثَّقافة بالمَجَّان" - وقد قَرَّرَ وَقْفَ
حياته وعمله وماله للثَّقافة المَجَّانيَّة - سيُحَوِّلُ كلَّ مَردودٍ
يَأتيه من هذا الكتاب لِدَعم صُمود اللُّبنانيِّين، كلِّ
اللُّبنانيِّين، في أرض أجدادهم، تمامًا كما حَوَّلَ مَردودَ كُتُبه
ومُجلَّداته غير الأدبيَّة السَّابِقة، وسيُحَوِّلُ مَردودَ الآتي
منها، لدَعم طباعة كتبٍ مجَّانيَّةٍ جديدةٍ من ضِمن السِّلسلة الآنِفَة
الذِّكر.
وأمَّا ناجي نعمان فأَنَسِيٌّ وكاتِبٌ ومُرَوِّجُ ثقافة؛ من مواليد
حَريصا (لبنان) في 19 أيَّار 1954. لُقِّبَ بـ "مجنون الثَّقافة
بالمَجَّان" إذ حاولَ، ويُحاولُ، عَولَمَةَ الثَّقافة المَجَّانيَّة،
فقَدَّمَ، ويُقدِّمُ، عملَه ومالَه في هذا السَّبيل، إلى حَدِّ
الاستِدانة. صاحبُ دار نعمان للثَّقافة (1979)، أنشأَ سلسلةً من الكتب
الأدبيَّة المَجَّانيَّة عامَ 1991، وأطلقَ سلسلةً من الجوائز
الأدبيَّة عامَ 2002، أتبَعَها بسلسلةٍ أخرى من الجوائز الأدبيَّة
الهادِفَة، عامَ 2007. كما أنشأَ، في العام الأخير، صالونًا أدبيًّا
ثقافيَّا، ومُحتَرَفًا أدبيًّا. وأمَّا عام 2008، فشهدَ إطلاقَه سلسلةً
من أكشاك الكتب المَجَّانيَّة المُوَجَّهَة لعامَّة النَّاس، ومكتبةً
مجَّانيَّةً مُتَخَصِّصَةً بأعمال المؤلِّفين الكامِلَة. له أكثر من
أربعين مؤلَّفًا، منها عددٌ كبيرٌ من الأعمال الأدبيَّة، وقد تُرجِمَ
إلى أربعينَ لغةً. حائِزٌ جائزةَ الشِّعر العالميَّة الكبرى (رومانيا،
2002)، وهو مُرَشَّحٌ لأكثر من جائزة، منها الـ "پْرِمي إنتِرنَسْيونَل
كاتالُنْيا". |