نهاية
الموارنة؟!
أم بداية جديدة؟؟
ريمون ناضر
أُكمل
اليوم ما بدأته في المقالة السابقة بالنظر إلى واقعنا الحالي بعمق وصدق
وشجاعة ومحبة لنرى وندرك حالتنا، ليس من قبيل النّعي والبكاء واللّوم بل
للخروج من واقعنا الحالي الأليم إلى واقع أفضل مشرق ومزهر.
أبدأ بطرح سؤال بديهي: أين أصبح الموارنة اليوم؟ أو بشكل أعمق أين هي
المارونية اليوم؟
أين أصبح هؤلاء الذين شغلوا الشرق كما الغرب لقرون طويلة بحضورهم المميّز
فصنعوا تاريخاً مليئاً بالتجلّيات الروحية والإبداعات الفكرية والثقافية
والفنية والتحدّيات الوجودية والكيانية؟
أين أصبح هؤلاء الجبابرة الذين سطّروا تاريخاً مجيداً عبر القرون بفرادة لا
مثيل لها في العالم بين الشهادة للمحبة والإستشهاد من أجل الحرّية والعمل
من أجل المعرفة والإبداع؟
أين أصبح هؤلاء الرسل الذين حملوا قضية المسيح والإنسان في هذا الشرق
وربطوا الشرق بالغرب والأرض بالسماء وعانقوا الصليب وعبقت جبالهم برائحة
البخور وصدحت أوديتهم بالصلوات والتراتيل وجبلوا ترابهم بالدم والعرق
والدموع فأزهرت أرضهم قديسين وشهداء ملأوا الدنيا بأنوار السماء؟
أين هم الموارنة اليوم من موارنة الأمس الذي ليس ببعيد؟
كان الموارنة يوصفون بالعلماء فيقال عن العالم أو المفكّر أو الفيلسوف أو
اللاهوتي "عالم كماروني" لشدّة إرتباط المارونية بالعمق والعلم والثقافة
والرزانة.
كانوا يتغنّون بالعائلة المارونية المتماسكة، بالأب الماروني المجاهد،
الصّلب، ربّ العائلة الوفي المتفاني، وبالأم السيدة المارونية الملتزمة،
المتفانية، المضحّية، الأم التي تلمّ العائلة.
كان شبابهم قدوة في الإيمان والشهامة والنبل والأخلاق والإلتزام، وصباياهم
قدوة في الإحترام والتهذيب واللياقة.
كانت كنيستهم مجداً للبنان، منارة للشرق، منبعاً للقداسة والإشعاع.
كان قادتهم وزعماؤهم رمزاً للقضية المسيحية في الشرق بالتزامهم وإيمانهم
وشفافيتهم وتجرّدهم ونظافة كفّهم وحسن سيرتهم وسعة صدرهم وكبر عقلهم وبعد
حلمهم وعبادتهم لربّهم والتزامهم به وبقدّيسيه وأمه العذراء مريم. وكانوا
محطّ تقدير وإعجاب من كلّ القادة والملوك والرؤساء والزعماء في كل المنطقة.
أين هم هؤلاء الموارنة اليوم أو ماذا بقي من المارونية في موارنة اليوم؟
أين الشعب الماروني الذي طحن الجبل وزرع الوادي وأبى كلّ ذلّ وخنوع وسبق
الثورة الفرنسية بالنهضة الفكرية ومحو الأمية في مجمع اللويزة الرائد؟
أين هو هذا الشعب الذي حافظ على إيمانه بثبات وعناد طوال قرون عديدة
مواجهاً ومقاوماً ورسولاً ومنفتحاً عين على الإنجيل وعين على الأرض يحميهما
ويموت من أجلهما معاً؟
أين الكنيسة المارونية اليوم وهي تتعرّض من الموارنة نفسهم للتجريح واللطم
والإهانة ولم ينجُ بطريرك واحد من بطاركتهم الأخيرين من البهدلة والإهانة
والتهشيم والتجريح على أيديهم هم الموارنة بالذات وليس على أيدي العثمانيين
أو المماليك أو أصحاب الوصاية والإحتلال والإذلال؟
أين هم القادة والزعماء الموارنة اليوم وهم باتوا يحتاجون إلى لجان ووساطات
تَعقدُ عشرات الإجتماعات في جلسات مفاوضات وحوارات وتحضيرات وخطف أنفاس
وتبادل "الشوكولا" و"المارون غلاسيه" فقط ليلتقوا وكأن لقاءهم "عجيبة" بحدّ
ذاته فيما العاصفة تضرب المسيحيين منذ سنوات وتمزّقهم وتشتّتهم وتشلّعهم
وتقتلهم وتقتلعهم من أرضهم ورسالتهم وتُضعف حضورهم ووزنهم.
بارك الله كل لقاء وحوار ولو جاء متأخراً عشر سنوات أو ثلاثين سنة.
أين العائلات المارونية المتماسكة، أين الشباب الماروني الملتزم، المناضل،
حامل القضية؟ أين العلم والفكر والفلسفة والفنّ والإبداع؟ كم كتاب يُصدر
الموارنة اليوم يملأ العقول ويروي عطش الروح؟ وإذا صدر كتاب فنادرًا من
يقرأه؟
والأحزن من كل هذا هو تدمير الموارنة لذاتهم. فكلّ ما حمل أحدهم طبلاً
وطبّل على الموارنة كان الموارنة أول من يقومون للرقص على إيقاعه بكلّ
سطحيّة وجهل وحقد دفين. فإذا طبّل أحدهم على بطريرك ماروني رقص له الموارنة
وإذا طبّل على رئيس جمهورية ماروني دبّك له الموارنة وإذا طبّل على زعيم أو
قائد أو كاهن أو راهب من الموارنة قام الموارنة بحماسة للرقص والتزمير
والتصفيق وحتى للتطبيل معه فيضحك الطبّال على الراقصين والدابكين الغارقين
بصيحات العنفوان والمراجل والعنجهية الفارغة.
ألا يشعر الموارنة أنهم يهدمون أنفسهم؟
ألم يحن الوقت ليعي الموارنة مدى الخسائر والهزائم التي منيوا بها في
السنوات الخمسين الأخيرة وخاصةً النصف الثاني منها؟
ألا يتحمّل أحد مسؤولية أي شيء أصاب الموارنة وسبّب لهم هذا التراجع
المخيف؟
ألا يسأل أحد من وما الذي أوصلنا إلى هذا الدرك المخيف من الإنحطاط؟
إنه خريفٌ مخيفٌ للموارنة.
هل زمننا الحاضر هو زمن إنحطاط أم آخر أيام الموارنة؟
أم أن هناك جذوراً مارونية دفينة تحت ثلوج كانون الماروني تنتظر دفء الشمس
"لتدبّ فيها الماويّة" وتشقّ التراب فتخرج منه كرمة جديدة تزهر في ربيعٍ
ماروني وتثمر عصراً مارونياً جديداً يعيد ربط حاضرنا الأليم المظلم
بتاريخنا المشرق؟... للبحث تتمّة.
|