أورفا – الرها مركز الثقافة
الآرامية السريانية
بقلم
: المهندس بيير حنا إيواز
الرها بالعربية وأورهويو بالسريانية وأورفا ، إديسا .. وهي كلها ..
ولئن تعددت
تسميات الرها ، إلا أنها تبقى جوهرة متكاملة ساطعة في مسيرة الحضارة
الانسانية ، خالدة بتاريخها الغني وبمساهماتها الهامة في بناء واغناء
التراث السرياني ومعالم الفكر والثقافة والحضارة على مدى اكثر من 15 قرنا
من الزمن . وبلغت الرها عصرها الذهبي .. بكنائسها وأديرتها ومدارسها
ومكتباتها العامرة والزاهرة ، بحيث أصبحت من المراكز الهامة في الفكر
والثقافة ، وفي دراسة اللاهوت والفلسفة والآداب السريانية ، وفي مؤلفات
وترجمات هامة في العلوم الدينية والهندسية والطبية والفلكية وغيرها.وقد
قيل في وعن الرها
–
أورفا الكثير ، ولكن نقتطف هنا تلك الابيات الشعرية الذهبية القائلة :
للكتب أنشئ مقدس أوحى لنا
عصر الرها ومآثر المأمون
في بابه ازدحمت اساطين النهى
سعيا وراء الجوهر المكنون
إن الانتشار
الواسع للغة الآرامية على مدى ثلاثة آلاف عام ، والأقدار المختلفة لناطقي
وأهالي هذه اللغة في المناطق المختلفة من الشرق الأوسط ، بالإضافة الى
انقطاع روابط بعض مجموعات الآراميين عن بعضهم البعض نتيجة لأسباب دينية
وسياسية ، كل ذلك أدى إلى انقسام اللغة الآرامية الى لهجات ، وبحيث اقترب
بعضها الى حالة لغة .وهنا تظهر بشكل خاص اللهجة الآرامية ( المحلية )
لشمال بلاد ما بين النهرين
–
مدينة الرها
Edessa
ومناطقها المجاورة حيث تشكل فيها خلال مئات السنين ( القرون 3
–
16 ) أدب كنسي وروحي وفكري معروف بشكل واسع لكل العالم . وهكذا تكون
اللهجة الرهاوية للغة الآرامية بالأخص والتحديد هي التي قد حصلت على
تسمية ( اللغة السريانية ) وهي اللغة المقدسة ، التي نطق بها السيد
المسيح .
مدينة الرها وهي من أقدم مدن الشرق ، حيث كانت عاصمة إمارة سريانية في
مابين النهرين ، يحكمها الملوك السريانيون المعروفون بالأباجرة ( مدة
أربعة قرون ) وقد تأسست سنة ( 132 ) قبل الميلاد، وكنيستها هي أم كنائس
مابين النهرين ( تأسست في السنة 37 بعد الميلاد ) .
وترجع آثارها السريانية إلى ما قبل ظهور المسيحية ، ومنها آثار حفريات من
مدينة الرها ( أورهوي ) ومناطقها المجاورة ، حيث حكمت فيها سلالة
الأباجرة منذ ( 125 ) عاما قبل الميلاد . واللوحة الكتابية لضريح أحد
أعضاء العائلة الحاكمة معنو /
Ma’ny/
تعتبر من أقدم المحفوظات الأثرية للغة السريانية وتعود لـ ( 73 ) عاما
قبل الميلاد. وهناك كتابة سريانية ثانية ، تقريبا من نفس الفترة ، تعود
لضريح آماش – شمشا /
Amash – Shamsha
/ زوجة شاردو /
Shar’dy
/ ممثل نفس تلك السلالة ، كذلك كتابة منقوشة على صخر منصوب على شرف ابنة
الملك الحاكم معنو . ومن المحفوظات الأثرية الأخرى ما قبل المسيحية ،
هناك المحفوظة الكتابية الأصلية وهي عبارة عن عقد تجاري من مدينة الرها
لعام ( 243 ) ق.م. وتعتبر من أقدم الوثائق السريانية المكتوبة بخط قريب
من الاسطرنجيلية
Estrangelo
.
بعد اعتناق الأسرة الحاكمة السريانية للاباجرة الدين المسيحي ( النصف
الأول من القرن الأول للميلاد ) تحولت مدينة الرها الى منبع متدفق ومنارة
ساطعة للأدب المسيحي السرياني . فكانت المؤلفات الكنسية ومؤلفات أصيلة
محلية وأخرى مترجمة عن اليونانية . فقد ترجم كتاب
دياطسرون
Diatessaron
أي الأناجيل الأربعة المختلطة من
تأليف ططيانوس الفيلسوف السرياني ( القرن الثاني ) ، كما كانت أسفار
الكتاب المقدس قد نقلت الى السريانية بالترجمة المسماة
بشيطا
Pshita
وذلك
في القرنين الأول والثاني . كما ظهرت مؤلفات في المنطق والآداب ومن بينها
حكاية احيقار الحكيم الشهيرة جدا .
ويظهر الادب السرياني للقرنين الثالث والرابع في كتابات مؤلفين وكتاب
معروفين على نطاق واسع ، مثل بارديصان
Bardaisan
( القرن 2 – 3 ) مؤلف ومنشئ عدد كبير من الأناشيد والتراتيل ،
ومار أفرام السرياني ( القرن الرابع
) ، الشاعر والمفكر ومؤلف المواعظ التبشيرية التعليمية ، ودعي بـ
( نبي السريان ) .
ويعتبر القرنان الخامس والسادس ، فترة تتويج للأدب السرياني واشراقته .
فقد انتجا أدبا شعريا كنسيا ضخما وواسعا جدا ، وكتبت خلالهما سير بعض
القديسين والآباء . وبالإضافة إلى الأدب الديني ، تطور بشكل مطرد الأدب
الفلسفي حيث كان المصدر الأساسي له المؤلفات اليونانية . وتم إنشاء
المراكز والمدارس في الرها لأعمال الترجمة من اليونانية بشكل أساسي ،
وتمت ترجمة الكثير من المؤلفات الفلسفية اليونانية بما في ذلك أعمال
ارسطو .
وقام السريان بنقل الفلسفة اليونانية والرياضيات والطب وعلوم أخرى .
وتمازجت الثقافة الخاصة للسريان مع الثقافة اليونانية . كما تعرف العرب
على هذه الأعمال من خلال تعاون مثمر في إغناء الثقافة والمعارف العربية
في هذه المنطقة من بلاد الشام وما بين النهرين . وفي هذه الفترة كان
المركز العلمي للسريان ايضا في دير قنسرين
Kenneshren
/
بيت النسور / حيث كان الاهتمام الأكبر منصبا على تلك الفروع
المعرفية مثل الفلسفة وعلم الفلك والرياضيات والآداب والتاريخ .
إن اللغة
السريانية ، كما يمكن القول ، هي اللغة الأدبية للآراميين – المسيحيين ،
وتدخل اللهجة الرهاوية لّلغة الآرامية في أساس اللغة السريانية . لذلك من
الطبيعي افتراض أن التشكيلة الأساسية لمفردات اللغة السريانية تشتمل على
المفردات المستخدمة من قبل الناطقين باللهجة الرهاوية . وأصبحت اللغة
السريانية مع مرور الوقت اللغة الأدبية لكل الآراميين – المسيحيين بما في
ذلك الناطقين باللهجات الآرامية الأخرى .
وهكذا كانت الرها مركزا للثقافة السريانية ، حيث وهبت نفسها للحضارة
الدينية والفكرية معا . ففيها الآداب الغنية في الدين
والفلسفة والقواعد اللغوية والطب وعلم الفلك ، بالإضافة إلى الآداب ، وكل
ذلك أغنى مفردات اللغة السريانية بمصطلحات متنوعة الأشكال ومتعددة الفروع
.
|