عاشت الأمة الآرامية بجميع طوائفها حرة أبية
 

المسيحيُّون خَميرةُ المَشرق وخَمرتُه

ناجي نعمان في ثلاثيَّته:

090420

صدرتْ عن منشورات المكتبة البولُسيَّة، من ضمن سلسلة "أمسِيات الأحد"، ثلاثيَّةٌ للأديب والباحث اللبنانيّ ناجي نعمان، تحملُ عنوانًا جامِعًا: "المَسيحيُّون المَشرقيُّون"، وعناوينَ ثانويَّةً: الفروع والأعداد والتوزُّع؛ المجموعات العرقيَّة والمذهبيَّة الأخرى؛ أيُّ واقعٍ؟ أيُّ مستقبل؟

يَلِجُ نعمانُ ثلاثيَّتَه بتَساؤل: في المَشرق الكلمة، ومنه انتشارُ المسيحيَّة في أصقاع المَعمورَة، فهل يُعقلُ بعد ألفيَّتَين اختفاءُ أتباع الكلمة من المَشرق عَينه؟ ويقول: هذا الموضوعُ عزيزٌ على كلِّ مَشرقيٍّ أصيلٍ مُتمَسِّكٍ بإبقاء هذه الأرض المقدَّسة مَنبعًا حَيًّا للتَّوحيد – منذ إيلِ الآراميِّين القائِل: "إزرعوا المحبَّةَ، تحصدوا السَّلام"، إلى النَّبيِّ العربيِّ، مرورًا بموسى اليهود، وعمَّانوئيلِ فلسطين – ونبعًا خافِقًا بأبناء الدِّيانات السَّماويَّة الثَّلاث، يعيشون، جَنبًا إلى جنب، شهودًا على عظمة الشَّرق، وعظمة إنسانه.

يجولُ نعمان، في الجزء الأوَّل من الثُّلاثيَّة، وبعد إعطائه فكرةً عامَّةً عن فروع المَسيحيِّين الثَّلاثة الكبرى في العالم وتوزُّع أتباعها، في انتشار المسيحيِّين العرب وأعدادهم، قبل أن يتحدَّثَ عن الاختلافات العَقيديَّة والطَّقسيَّة بين الكنائس الكبرى، ويُشَدِّدَ على ضرورة التَّقارب تمهيدًا للوَحدة، قائلاً إنَّ على المَسيحيِّين المَشرقيِّين ألاَّ ينتظروا وَحدةَ الكنائس في العالم ليبدأوا وَحدةً ما في ما بينهم. وهو يُنهي الجُزءَ الأوَّل من الثُّلاثيَّة قائلاً: على المَسيحيِّين المَشرقيِّين، أيًّا غدت أعدادُهم ونِسَبُهم، أن يظلُّوا خميرةَ المَشرق وخَمرتَه.

وينتقلُ نعمان، في الجزء الثَّاني من الثُّلاثيَّة، إلى الكلام على المَسيحيِّين المَشرقيِّين من ضمن المجموعات العرقيَّة والمذهبيَّة الأخرى في العالم العربيّ، فيُفصِّلُ الفارقَ بين العرب، والمُتَعَرِّبين، والمُستَعرِبين، ويُلقي نظرةً عامَّةً على المجموعات العرقيَّة والمذهبيَّة غير المَسيحيَّة في العالم العربيّ، قبل أن يتوقَّفَ عند حال المسيحيِّين المَشرقيِّين قُبَيلَ الفتح العربيّ الإسلامي، فبُعَيدَه، فما بعدَه بقرون؛ ثمَّ يَحكي عن إسهام المَسيحيِّين في النَّهضة العربيَّة، كما عن محاربتهم الاستِعمار، مُشَدِّدًا على ضرورة الحِفاظ على المجموعات المختلِفة في هذا الشَّرق، ولاسيَّما عبرَ ترسيخ فكرة المواطَنَة، كما على ضرورة إبدال كلمتَي "أقلِّيَّة" و"أغلبيَّة" بكلمة "مجموعة"، ذلك أنَّ كلَّ البشر، بحَسَبه، يكونون "أقلِّيَّات"، إذا كان تفكيرُهم ضيِّقًا مُتَزَمِّتًا، ويكونون، كلُّهم، "أغلبيَّات"، إذا كان تفكيرُهم واسِعًا مُتَنَوِّرًا. ويرى نعمان أنَّ الجَماعات – متى تمايزت وتعاضدَت – أشرقَتْ حضارةً وهناءَ شُعوب؛ في حين أنَّها – إذا اعتبرت نفسَها أغلبيَّاتٍ و/أو أقلِّيَّات، أو اعتبرَت غيرَها من الجَماعات كذلك، فمَيَّزَتْ نفسَها وقَسَتْ على الآخرين – غاضَتْ إنسانيَّتُها، فغابَتْ عن تاريخ الأمم، وخسرَتْ حضارتَها.

وأمَّا في الجزء الأخير من الثُّلاثيَّة، فيَعرضُ نعمان واقِعَ المَسيحيِّين المَشرقيِّين، ويستَشرِفُ مُستقبلَهم، عبرَ عرض هواجسهم أوَّلاً، فتَحميلهم، والمُسلمينَ، مسؤوليَّةَ استمرارهم في هذا الشَّرق؛ وهو يجدُ أنَّ استمرارَ المَسيحيِّين من استمرار غيرهم من المَجموعات في هذا الشَّرق، وهذه المجموعات لا تستمرُّ وتهنأُ بغَير الدِّيمقراطيَّة والعَلمانيَّة والحرِّيَّات العامَّة وحقوق المُواطَنَة الحقَّة. كما يطرحُ إنشاءَ كنيسةٍ جديدةٍ جامعةٍ اقترحَ لها، منذ العام 1984، تسميةَ "الكنيسة المَشرقيَّة"، أو "الشَّرقيَّة"، أو "العربيَّة". ويُنهي نعمان ثلاثيَّتَه مُتسائلاً: وبعدُ، أليس الوطنُ هو الرُّقعةُ التي يجدُ المرءُ فيها حرِّيَّتَه، يتَّسعُ فيَلُفُّ الكونَ، ويضيقُ فينحصرُ في مُخيِّلَته؟، فهل يَبني العالمُ العربيُّ أوطانَه اليومَ؟ وعَلامَ؟ وكيفَ يطمحُ هذا العالمُ، غدًا، لتحقيق وَحدةٍ ما، طالما لم يَبْنِ أوطانَه بعد؟ ويُضيف: إنَّما تاريخُ الأمم في أن تضعَ الأممُ تاريخَها؛ هذا ما سعت له أورُبًّا بعد صراعاتٍ داميةٍ بين شعوبها ومجموعاتها، فهلاَّ نَتَّعِظ؟

هذا، وتُزَيِّنُ غلافاتِ الثُّلاثيَّة مَنحوتةٌ قُبطيَّةٌ من القرنَين الرَّابع والخامس تمثِّلُ سمكةً، والسَّمكةُ شعارُ مَسيحيِّي القرون الأولى، لأنَّ كلمةَ "إخثيس" اليونانيَّة، وتعني السَّمكة، تمثِّلُ أحرفُها مجموعَ الحروف الأولى لِعبارة "يسوع المسيح ابن الله المخلِّص" باللُّغة عَينها. كما ثمَّة إشارةٌ إلى أنَّ الثُّلاثيَّةَ هذه ترتكزُ على أعمالٍ سابقةٍ للمؤلِّف، ولاسيَّما منها: "كتاب موجَّه (العام 1984) إلى ستٍّ وأربعين فاعليَّةً مسيحيَّة، روحيَّةً وزمنيَّة، في لبنانَ والمَشرق؛ ومجلَّد "المجموعات العرقيَّة والمذهبيَّة في العالم العربيّ"، من ضمن "موسوعة العالم العربيّ المعاصر"، الصَّادر عامَ 1990.

المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها